هل يرتبط الدين باكتمال شعائره أم بعمق سلوكه؟

وسن وائل

المقدمة: بين الشعائر والسلوك – أين يكمن جوهر الدين؟

 


وسن وائل/كاتبة عراقية

 

المقدمة: بين الشعائر والسلوك – أين يكمن جوهر الدين؟

لقد شهدنا انقلابات جذرية في مفاهيم الدين وتحولات قاسية بعد سقوط النظام الدكتاتوري وانبثاق الديمقراطية المغلفة لعشرين عامًا أو أكثر. هذه الفترة الزمنية لم تكن عابرة؛ فقد نقلت الوعي الديني من الانحباس والتكتم إلى العلن، وأحيانًا إلى التهريج والاستخفاف. أصبح كل من هب ودب يضع قواعدًا تناسب رغباته المكبوتة التي تفجرت بعد سنوات القهر. وما زاد هذا التحول تعقيدًا هو أن من قادوا هذا الحراك كانوا عملة الشعوب، أي الشباب. لكن السؤال: من أي قضبان مهترئة حرروه، ونحو أية سماء غائمة أطلقوه؟

أولًا: الدين والسيطرة على النفس
– قراءة في فكر الرومي

يقول جلال الدين الرومي: "ليس الهدف من الدين السيطرة على الآخرين، بل السيطرة على النفس". هنا يضع الرومي معيارًا صافيًا للدين؛ إنه رحلة إلى الداخل لا إلى الخارج، تجربة لإصلاح الذات لا لمحاكمة الغير. فالإنسان الذي يعي ضوابط دينه دون أن يمس الآخرين بالتكفير أو التشهير لا يعني بالضرورة أنه بلغ الكمال، لأن الكمال في ذاته مفهوم زائف.

ثانيًا: الإنسان في تطور مستمر
– رؤية نيتشه

لقد أشار الفيلسوف نيتشه إلى أن الإنسان في تطور دائم، يسعى نحو الأفضل دون أن يبلغ الكمال. فالكمال، بحسب نيتشه، هو وهمٌ يسكن مخيلة البشر، خُلق ليُشبع نقصهم اللاشعوري ويحررهم من وهم العيوب المتأصلة فيهم. وهذا ما نراه اليوم؛ فالتزعزع في فهم الدين لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة سنوات من القهر والحرمان من ممارسة الحريات، مما جعل البعض يفرط في الهروب نحو الشكل دون الجوهر، حتى فقد المعنى الأساسي للدين.

ثالثًا: بين التعصب والاستهتار  – صراع فهم العقيدة

لقد أدى هذا الانفلات إلى اختزال الحديث عن الدين في خيارين متطرفين:

الأول: متعصب متزمت يجعل من مفهومه منارة يفرضها على الجميع.

الثاني: مستهتر يستخف بكل القيم تحت ذريعة الحرية الشخصية.


وبين هذين القطبين، ضاع المعنى الحقيقي للعقيدة، فأصبحت الشعائر مجرد قوالب فارغة لا تنعكس على السلوك.

رابعًا: الإمام علي نموذجًا – الدين أخلاق قبل أن يكون طقوسًا

هنا نجد أن التاريخ يحمل إلينا نموذجًا خالدًا لفهم الدين جوهرًا وسلوكًا، وهو الإمام علي بن أبي طالب. قال الإمام علي:
"الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"،
ليضع بذلك قاعدة ذهبية تسبق الشعائر بمسافات، وهي قيمة التسامح الإنساني فوق الخلافات العقائدية. ورغم مكانته الدينية، حكم الإمام علي بين الناس بأفعالهم لا بمظاهر إيمانهم، فجعل الدين مرآة لتزكية النفس، لا أداة للحكم على الآخرين.

خامسًا: الدين بين القصيدة والشعيرة – ما هو المعنى الحقيقي؟

أمام كل هذا الزيف، لا يسعني إلا أن أسخر من كل مظاهر التدين الفارغ. فالدين ليس قصيدة تتناقلها المنابر، ولا شعيرة تُمارس كعادة، ولا ثوبًا يُرتدى ثم يُخلع متى نشاء. الدين هو:

كلمة ترأف بنا،

نظرة طيبة،

تسامح ورحمة تنقذ العالم من مستنقع الكراهية والاستعباد.


الخاتمة: العمق لا الشكل هو الخلود

إن العقيدة الحقيقية تتجلى حين يتحرر الإنسان من قيود الشكل إلى عمق المعنى. فالدين رحلة نحو السمو الأخلاقي، وصدق السلوك هو الشعيرة الأعظم. كما قال نيتشه، التطور المستمر هو جوهر الإنسان، وكما أشار الإمام علي، الأخلاق هي معيار الإنسان. وبين الفلسفة والتاريخ، تبقى الحقيقة واحدة: ليس الدين قيدًا، بل حرية روحية ترفع الإنسان نحو ذاته، لا فوق غيره.

 

 

 

للفنان الإيطالي رافائيل

 

 

 

 

لوحة شهيرة للفنان الفرنسي ديلاكروا

 

 

 


 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق