زوجة الشاعر وأوجاع القصيدة
عبدالرزّاق الربيعي
عبدالرزّاق الربيعي/ شاعر عراقي
قبل ارتباطه بزوجته عطية الله إبراهيم التي تصغره بـ 35 سنة، كان الكاتب الكبير نجيب محفوظ مضربا عن الزواج الذي يراه معطّلا لقواه الإبداعية، فعاش حياة عاصفة، وكانت والدته تقوم بكلّ ما يتطلبه من طعام وغسيل ملابس، لكنه أدرك خطأه فهو يقول: «كنت أعتقد أن الزواج سيحطم حياتي الأدبية، وللأسف كان كلامي غير صحيح فالحقيقة أن حياتي الزوجية ساعدتني»، وحين سأله الناقد رجاء النقاش عن زواجه لم يجبه جوابا رومانسيا، وهو القائل: «كثير من زملائي الذين تزوّجوا على أساس الحب الرومانسي فشلوا» ولم يتحدّث عن علاقة الحب التي جمعتهما كلّ تلك السنين، بل أعطاه جوابا واقعيا، هو «كنت بحاجة إلى زوجة توفّر لي ظروفا مريحة تساعدني على الكتابة، ولا تنغّص عليّ حياتي فاخترتها».
فهل وفّرت د.سلوى عبدالله زوجة الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد التي رحلت صباح الاثنين الموافق 18 سبتمبر ٢٠٢٣ في مدينة فينكس بولاية أريزونا الأمريكية عن (93) سنة، حياة مريحة ساعدته على الكتابة؟
في البداية، لا بدّ من القول: إنّ (أمّ خالد) من أقرباء الشاعر، وقد عاشت معه ظروفا صعبة، في مقتبل حياتهما الزوجيّة، التي مرّت بتقلبات كثيرة، وتحمّلت مزاج الشاعر، الذي كان محاطا بالمعجبات، وقد ذكر د.وليد الصرّاف أنها سألت بلقيس زوجة الشاعر نزار قباني، كما روت له: كيف تحتملين المعجبات بنزار؟ فأجابتها: ألست أنت الأخرى زوجة شاعر؟ أجابت: بلى، فردّت عليها بلهجتها العراقية: «كلهم نفس الشيء».
لكنها بقيت زوجته المخلصة، وأم أبنائه، وطبيبته، ورغم أن سفينتهما لم تجرِ في مياه هادئة على الدوام، لم يشتكِ يوما منها، بينما كانت كثيرة الشكوى منه، سواء في الجد أو المزاح، وكان يقابل تلك الشكوى بابتسامة، وقد أخبرتني ذات يوم، بحضوره، أن قناة تلفزيونية أجرت معه حوارا، ثم طلبت منها شهادة عن حياتها معه، فتكلّمت بصراحة اعتدنا عليها، وختمت كلامها لي باستنكارها عدم بثّ القناة شهادتها، وحين التفتُّ إليه، وجدتُه يضحك، ففهمتُ نوع الشهادة التي قدّمتها، لكنه كتب لها أجمل قصائده، ليس فقط في غربتهما وشيخوختهما بل حتى في شبابهما، ومن أوائل قصائده فيها (يوما ما) التي يؤكد د. عبد المطلب محمود أنه كتبها عام 1952 م وكان يخاطبها باسمها (سلوى)، قبل ولادة ابنهما البكر (خالد) وفيها يشكو غدر الأحبّة، وجور الزمان عليه:
وعينيكِ يا سلوى أُحِسُّ دمي يجري
وأبسمُ للدنيا كأنّيَ لا أدري
طعينٌ وكفّي فوق جرحي تشدُّهُ
وأضحكُ حتى لا يرى ألَمي غيري
وأعلمُ يا سلوى بأنّ هواجسي
ثقالٌ على كلّ الصدور سوى صدري
فأُودِعُها في أضلعي كلما قسَت
تملمَلَ في الأوراق حرفٌ على سطرِ
سأضحكُ يا سلوى وإن كان في دمي
سعيرٌ أُقاسي منه فوق مدى صبري
وماذا تبقّى لي لآسَفَ.. بعدما
رأيتُ أعزّ الناسِ أدنى إلى غدري
وبقي يشكو لها، في غربته حتى بعد أن بلغ من العمر عتيا، ففي قصيدته (يا أم خالد) يقول:
لا.. لا تلحي في سؤالي
هي بعض أوجاع الليالي
هي بعض ما تركت صرو..
..ف الدهر زادا في رحالي
العمر يسعى للمحاق
فما حديثك عن هلالي؟
يا أمَّ خالد حَسْبُنا
أنَّا غَوالينا غَوالي
يا أمَّ خالد والحياةُ
من انتقالٍ لانتقالِ
وكثيرا ما أشار إلى أنها كانت تدير حياته، بل ولا يستغني عن ملاحظاتها، ومن بينها سؤالها له عندما قرأ على مسامعها قصيدته (هذي ذرى مصر):
رتّلْ قصيدك كالآيات ترتيلا
واجعل حروفك من ضوء قناديلا
قالت له: أراك نسيت بغداد، فانتفض وعاد إلى أوراقه، وهو الذي يكتب قصائده دفعة واحدة في الغالب، فأضاف إليها الأبيات التي غناها المطرب كاظم الساهر:
نسيت بغداد؟ قالت لي فجفّلني
سؤال زوجتي المذبوح تجفيلا
نسيت بغداد؟ ويلمي وويل أبي
لو ليلة بت عن بغداد مشغولا
نسيت بغداد أنسى كيف إن لها
عدّ المسامات في جلدي تفاصيلا
تبرعمت في دمي حتى غدت ورما
دماملا ملء روحي أو ثآليلا
وفي ذكرياته خصّها بحلقة أسماها (قصيدة اعتذار لأمّ خالد) نشرها بجريدة (الزمان) في ديسمبر 2014م قبل أن تصدر الذكريات بكتاب، ففيها يذكر أدق التفاصيل التي جمعتهما على المودة ويذكر أنه كتب لها عندما كانا في باريس قصيدة (اعتذار) يبدو أنها لم تعجبها فانتفضت وقالت له: هل هذه قصيدة اعتذار؟ عندها كتب لها:
لا تحرميني من رضاك
أنا ليس لي أحد سواك
نفسي وما حاكت يدي
وجميع أشعاري فداك
شيطان شعري كنت أنت
وأنت أنبل من ملاك
حتى الرؤى بقصائدي
في الحب أجملها رؤاك
ستّين عاما عشتهنّ
يرفّ قلبي في حماك
وظل قلبه يرفرف في حماها إلى يوم رحيله بباريس في 8 نوفمبر 2015 لتلتحق به بعد ثمانية أعوام.
ارسال التعليق