هل نكتب لتغيير قناعات الناس؟

كلكامش نبيل

في فترة ما، كنتُ أعتقد أن بإمكاننا تغيير المجتمع من خلال الكتابة الدائمة، ويمكن أن يُحدث ذلك بعض الفارق من خلال التكرار والبث المستمر من قبل مؤسسات ضخمة مدعومة،

 


كلكامش نبيل | كاتب عراقي

 

في فترة ما، كنتُ أعتقد أن بإمكاننا تغيير المجتمع من خلال الكتابة الدائمة، ويمكن أن يُحدث ذلك بعض الفارق من خلال التكرار والبث المستمر من قبل مؤسسات ضخمة مدعومة، لا أفراد عابرين. كنتُ أتبنى فكرة التغيير من القاع وأشجع دور المثقف الاجتماعي أو المنخرط أو التنويري، رغم قناعتي بأن التغيير من الأعلى أسرع، ولا سيما مع تجارب فرض العلمانية مثلا في تركيا وتونس وإيران سابقًا، بل وحتى انتشار المسيحية مع تبنّي قسطنطين لها دينًا رسميًا للإمبراطورية الرومانية، وأحيانا استحضر أفكار «كونفوشيوس» في التأثير عبر معلمي الإمبراطور، ليطبّق الحاكم الجديد أفكار أستاذه، وأفكر في الإسكندر العظيم ومعلمه أرسطو.

في فترة ما كان بعض الملحدين يكتبون «ما بدأ بالسيف، ينتهي بالفيس»، في إشارة إلى طموحهم في إنهاء الإسلام عبر نقاشات الفيسبوك. مع ذلك، لم يكن لتلك الحقبة أثرٌ كبير لولا الحرب في العراق وسوريا وفظائع التنظيمات الإرهابية واحتدام الصراع الطائفي، فكان لما يكتبونه أثر في انتشار الإلحاد في البلدين، وخارجها، بالتظافر مع ظرف واقعي.

في تلك الحقبة، أدركتُ أن وجود ظرفٍ ما يمهّد لقبول الناس لما يُنشر، ومن دون ذلك لن يكون لفعل الكتابة المجرّد أثرٌ كبير. عندما انتشرت الأفكار القومية في أوروبا، وانفصل البلقان عن الدولة العثمانية، واليونان قبل ذلك، انتشرت الأفكار القومية الطورانية في تركيا ردًا على ذلك، ولكن هذا الانتشار ولّد أفكارًا قومية بين الرعايا العرب والأرمن والكُرد وغيرهم، وهكذا لم تنتشر تلك الأفكار من دون جوّ عام يساعد على ذلك وأسباب تجعل الفكرة منطقية، وغالبًا كردّة فعل.

بمرور الوقت، لم أعد أؤمن بإمكانية تغيير أفكار الناس عبر الكتابة، لأن غالبية الناس تتابع الأمور غير الفكرية (ولهذه التفاهة فائدة عظيمة في حفظ الاستقرار)، فضلاً عن أن الغالبية الأخرى تتابع ما يرضيها ويلائم أفكارها المسبقة، وحتى عبر فضاء وسائل التواصل الاجتماعي، يعيش الفرد ضمن فقاعات تضم من يشبهونه في الغالب، فهو يتابع ما ينشره أصدقاؤه والصفحات التي يميل إليها، ويغادر الصفحات التي تنشر ما يسوءه ويحظر من يزعجه. 

مؤخرًا، قرأتُ في كتاب عن التفكير للطبيب الأميركي المالطي المولد إدوارد دي بونو، وكان الكتاب هدية من أحد الأصدقاء في أعياد الميلاد، وفوجئتُ بحديثه عن أن تغيير رأي أحدهم لا يتم بالمنطق، وأن أحدًا لا يغيّر رأيه عبر نقاشٍ منطقي، بل عبر تغيير زاوية استقبال الأمر أو الـ perspective ويتم ذلك عبر نقاشات مباشرة يسودها القبول والاحترام المتبادل. بالفعل، غيّرتُ بعض آرائي وصار بإمكاني فهم وجهة النظر المقابلة، من خلال صداقات طيبة مع أشخاص كنت أحكم عليهم بالجهل والشر.

ولمّا كان أثر النقاش المباشر أكبر، ولاستحالة حدوث ذلك مع عددٍ كبير من الناس، يبرز هذا السؤال: لماذا نكتب؟

في الواقع، لم أعد أكتب لتغيير وجهة نظر أحدهم، بل لإبداء الرأي - وربما إقناع من لم يحسم رأيه حيال الأمر، ومثل هؤلاء غير مكترثين بموضوع النقاش في الغالب، وإلا كان سيكون لهم رأيهم في المسألة – أو تقديم حجج تحمي جمهور الكاتب – المتفق معه أصلا – ضد التضليل أو حجج الخصم، فيما يشبه عملية تحصين مجتمعي وثقافي، أو ترك تعليق في صفحة تنشر ما تختلف معه على أمل حماية بعض القراء ممّا تعدّه تضليلاً أو تنبيه آخرين إلى معلومات تُعرض بطريقة خاطئة، وتقلّل من مصداقية الجهة الناشرة ببيان الأكاذيب والأخطاء، وتقديم حجج يردّ بها من يتفق معك ممّن تنقصه المعرفة والوسائل اللازمة للدفاع عن موقفه.

أي أننا نكتب في الأساس لجمهور يوافقنا الرأي، ونقدّم له الحماية الفكرية من آراء نعتقد أنها خاطئة، أو لتوفير ردود للعامّة من جمهور الكاتب لكي يكون موقفهم أقوى في النقاش، أمّا الأمل في تغيير مواقف وآراء الناس عبر التعليم والإعلام والكتابة فما هي إلا حالات فردية، وتنجح في الغالب مع غير المكترثين ممّن لا يمتلكون رأيًا حيال المسألة، وغياب الرأي دليل عدم أهميتها بالنسبة لهم.
 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق