مواكبات قضية:

محمد خضير

 


محمد خضير || كاتب عراقي


يواكب التشكيليُّ المغترب يوسف الناصر مأساةَ غزّة الفلسطينيّة بسلسلة تخطيطات/ رسوم مُرتَجَلة، قد تكون على مستوى مواكبة فنّان عراقي آخر هو ضياء العزاوي لمذبحة صبرا وشاتيلا بأشكال أكثر اكتمالاً واستقراراً تعبيرياً. لكنْ كِلا المستويين الفنيّين، المرتجَل والمستقرّ،  عبّرا عن درجة تضامنية واحدة مع أسخن قضايا العصر الراهنة، الرديفة لأبشع مآسي الحرب والإبادة الجماعية حول العالم، منذ انتهاء عصر المعسكرات والمحارق البشرية وحملات التطهير العِرقيّ. 
 مع هذا التوضيح، لم يخترع يوسف الناصر حدثاُ ليواكبه بدلاً من مواكبة قضيّته العراقية (وأزعم أنّ التهاب هذه القضيّة لم يبرد بعد في لوحات الناصر، حيث رسم سلسلة رسوم تحت عنوان: قلبي على بغداد، ٢٠١٩) وإنّما أضاف إلى المستوى التاريخي للقضيّة الفلسطينيّة ما يُعتبر رابطاً دلالياً/ تصويرياً بعدد كبير من قضايا العالم الملتهبة. وعبر هذا الرابط التواصليّ، تخطر أشكالُ فرانشيسكو غويا لتدحض عصراً كاملاً من البربرية، وتغادر أشكالُ الجورنيكا وضعَها التكعيبي لتتصل بأوضاع لوحات فرناندو بوتيرو بتجسيماتها المضخَّمة حتى الانفجار. إنّ الفضاء الملحميّ لقضايا المصير والعدالة يكتظّ بمثل هذا الاستعارات التهكميّة، بل يحتاج بقوة إلى خطوط مشوَّشة، وخدوشٍ مؤلمة لوجه الحقيقة الفلسطينيٌة الجميل. فلكي نربط بين هذه المواكبات، كبيرها وصغيرها، جميلها وقبيحها، سخريتها ورعبها، نحتاج لتوقيعات ختامية من نوع تخطيطات يوسف الناصر، التي تشكّل بصمةً سريعة على ذلك الفضاء المزدحم بأشكال الاحتجاج والصراخ/ الصامت لأشلاء الضحايا.
 استضافت جمعيةُ الفنانين التشكيليّين في البصرة الفنّانَ يوسف الناصر في أثناء زيارته البصرة في السادس من شباط ٢٠١٧، للمشاركة في رسم لوحة جماعية، بمعيّة فنان مغترب آخر هو هادي الصكر. تحلّقَ حول القماشة المفروشة على طاولة كبيرة رسّامون بصريّون إضافة إلى الفنّانيْن المغتربيْن، وشاهدتُ الناصرَ يضع اللون الأسود من غير توجّس، بل باحتدام مَن يُقبِل على عمل استفزازيّ. ملأ المساحةَ المخصّصة لرسمه وكأنّها البقعة التي عاد ليمتلكها بارتجال حرّ، نابع من وجدانٍ بحجم الغربة والفراق عن جزء عزيز من محلّة (نظران) التي تحتوي منزلَ الفنّانين القديم، وربما منزل طفولته أيضاً.  رَسَمَ وكأنّه يشطب على ماضٍ كامل، شوّه القماشةَ بمسارات لونيّة متخبّطة. ولكأنّي شاهدتُ لحظةً عابرة من حياة فنّان مهاجر، يعبث بزمنه كما يشاء، ويهدم أيّ اتصال بموضوعه الأصيل: قضيّته كلّها من البداية حتى النهاية.
 يُعتبر الارتجال في الرسم حالة من حالات الاستعداد القصوى، نظراً لما يمثّله الرسم الارتجاليّ من تردّد في اقتحام موضوع هام وعسير المنال منذ الوهلة الأولى. سيبدو الموضوع المرتجَل قابلاً للشطب مراراً، قصدَ التشذيب والإنجاز النهائيّ؛ القصد الحقيقيّ الذي سيبقى خافياً عن الأنظار ومُحرَّفاً إلى حدّ غير قابل للتأويل. وخلافاً للقصد التقليديّ في تشكيل لوحة تجريدية_ حيث الآثار المرئيّة مبهمة التجسيم_ فإنّ قوة التجسيم في اللوحة الارتجالية_ تجسيم القضيّة_ ستُرغِم الفنّان على البقاء قيد المساءلة بقُرب لوحته، إذ ثمّة تصريح لن يستطيع منعه، سيظهر على السطح، منبثقاً كصرخة صامتة. لن يتأخّر التعبيرُ الارتجاليّ عن الدلالة على قضيّته، المختفية في متاهة الخطوط وصمتها المُدوّي: إنّي هنا أيّها الجسم_ المقطَّع_ المستوحِد_ المصلوب في قدّاسك الليلي!
  هل تمثّل رسوم يوسف الناصر عن مأساة غزة أغانيَ وأناشيدَ مقطوعة الوشائج بكائنات حيّة مثلها، إلّا من صرير قلمه وفرشاته؟ هل تتجمّع الأصوات في حنجرةٍ مزّقها الارتجال التخطيطيّ، وظلّت رغم ذلك تُرسِل نشيجَها عبر الأبعاد الملتفّة كمتاهة يوليسيسية؟ أنتم، يا مَن هناك، ثمّة جسد يريد التشكّل بأيّ صورة، كما لو أنّه آخر فلسطينيّ على الأرض!
 لكن ارتجال الوضع التشكيليّ ليس في حقيقته غير استحالة تجسيم حقيقةٍ ما، رغم النور القويّ الذي يكاد يَعمي الأبصار/ نور المحاكمة العلنية لجلّادي العصر. الحقّ مع مَن/ ما أُعلِن أم مع ما أُخفِي بقصد، في لحظة الصراع مع الذات والعالم بأجمعه؟ 
  الارتجال مقابل التجاهل العالمي... أظنّها القضية الرابحة الوحيدة في تخطيطات يوسف الناصر؛ من أيّ زاوية أبصَرتَها أو قرأتَها، بقصدٍ منك أو من دون قصد!
 

 

 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق