عبد الجبار الرفاعي .. التواطؤ مع العصر

د. مجاهد ابوالهيل || باحث عراقي

في حوزة قم المقدسة, التي يحكم الدين الكلاسيكي قبضته عليها, وفي منتصف تسعينات القرن الماضي, تعرفت الى الشيخ عبد الجبار الرفاعي ليس وجها لوجه, وانما مستمعاً لدروسه, حين كانت " كاسيتات " الدرس الحوزوي لمناهج العلوم الدينية تفتح اذهاننا لألتقاط اكبر قدر ممكن من المعرفة الدينية.


في حوزة قم المقدسة, التي يحكم الدين الكلاسيكي قبضته عليها, وفي منتصف تسعينات القرن الماضي, تعرفت الى الشيخ عبد الجبار الرفاعي ليس وجها لوجه, وانما مستمعاً لدروسه, حين كانت " كاسيتات " الدرس الحوزوي لمناهج العلوم الدينية تفتح اذهاننا لألتقاط اكبر قدر ممكن من المعرفة الدينية, اذ تتلمذ على صوته الدافيء اغلب طلبة الحوزة العلمية, لكن المعرفة عن طريق الاستماع لم تكن كافية لرسم ملامح الشيخ الرفاعي الحقيقية؛ التي خلت من اشتراطات رجل الدين التقليدي, فالرفاعي متواطيء مع العصر بشكل لم تعتده المؤسسة الدينية على الاطلاق, رغم انه يمسك بتلابيب التراث, وينهل منه كل عناصره وادواته, لدرجة انك تتهمه بهدر الوقت العام حين يعود بك الى خانات التاريخ الغابر, يحكي احيانا قصصا وحكايا غابرة، بطريقة سردية مملة، ليتوصل الى شاهد او عبرة يمكن ان يستخلصها من كل هذا السرد، وهذا سر من اسرار عظمة الرفاعي التي لا تتوقف عند زمن دون آخر .
لذلك  يجب ان تبحث عن الرفاعي الآخر والحقيقي, وهذا لن تعثر عليه بشكل واضح الا حينما تكون من اصدقائه, الذين يختارهم هو وبمحض ارادته، غير آبه بكل الفوارق العمرية والطبقية والايديولوجية.
ان من يحضى بصداقة الدكتور الرفاعي عليه ان يكون جديراً بها, كما عليه ان يكون انتهازياً لألتقاط المعرفة من الرجل, الذي يتميز بالسخاء المعرفي حيال من يصلح ان يكون متلقياً صالحاً, لذا اعد نفسي في غاية الحظوة حينما تعرفت اليه عن قرب, ولا انسى المفاجأة التي شكلتها لي هذه المعرفة بالرفاعي, بعد ان رسمت له صورة الشيخ المتكرر امامي في مشاهد يومية في شوارع قم ومدارسها الدينية, والذي ظل قابعاً في ذاكرتي من ازقة النجف وحاراتها يوم كنا نسكن هناك في نهاية الثمانينات, تعرفت الى عبد الجبار الرفاعي, الذي يعتمر العلم عمامةً، والمعرفة جلباباً, والانسانية عباءةً بيضاء.
كان حاسر الرأس, الا من المعرفة, وحليق الذقن لايشبه رجال الدين, الذين لا يختلف اثنان منهم على اهميته العلمية ومكانته المعرفية, وورعه وتقواه.
وبعد ان رفع الرفاعي كل الحواجز التي كانت تفصلني عنه, وألغى المسافة الزمنية والعلمية والفكرية التي بيننا, اصبحت اتردد على مجلسه كلما سمح لي, وطالما كان يسمح لي ولأمثالي ان ننهل من ورده, كان مجلسه يعج بأجيال كثيرة، ومختلفة الطبقات والاتجاهات العلمية والسياسية، وكان من بين هؤلاء طبقة الشباب التي يوليها الرفاعي اهمية ملحوظة؛ لأنه يعول عليها كثيرا ، وكنت وزملائي نسير بزهو وغرور لأننا كنا على قرب مفرط منه. كان يوّجه قراءتنا, ويرتب خطواتنا نحو التكوين والصيرورة, بعد ان كنا نعاني ارتباك تلك الخطوات، التي كانت موزعة بين التراث و غد الحداثة، التي فتح نافذتها هو في الجدران الكونكريتية للحوزة العلمية.
في ليلة من ليالي قم، قادني الحظ الى ان اكون شاهداً على أسوأ ليلة في حياة الدكتور عبد الجبار الرفاعي, حينما دخلت عليه، وجدت في مكتبته رجلاً يدون أسماء الكتب, ليقوم بتقييم ثمنها, ومن ثم نقلها الى سوق الكتب ليبيعها, وكانت روح الرفاعي تخرج من بدنه كتاباً كتاباً، وآهة آهة, اذ كانت حسراته بعدد صفحات الكتب الكثيرة الموزعة فوق الرفوف المصنفة موضوعياً.. لقد باع الدكتور الرفاعي اصدق مكتبة مع قارئها على مر العصور, لكي يواصل اصدار مجلة مشروعه المعرفي " قضايا اسلامية معاصرة " , اذ كان وما يزال يشكل اكبر واهم مشروع لتحديث التفكير الديني في العالمين العربي والاسلامي.
كانت مجلة " قضايا اسلامية معاصرة " في بداية صدورها، ولم تبلغ اعدادها عدد اصابع اليد الواحدة، لكنها اجتازت مرحلة الاختبار بامتياز، وهذا ما جعل الرفاعي ينتصر لها على مكتبته الام التي باعها بطريقة حزينة، لا تشبه بيع المكتبات التي تشبهها في شارع المتنبي ببغداد.
لم يهتم رجل دين او سياسة في المنافي التي عاشها العراقيون بالشباب مثلما فعله الدكتور الرفاعي, ولا ابالغ لو قلت ان بصمته واضحة على كل الجيل الذي يحمل هموم الفكر والثقافة في العراق، وبعض الدول العربية والاسلامية.
لا انسى يوم استكتبنا انا ومجموعة من الشباب, مثل سرمد الطائي وعلي المدن وعبد اللطيف الحرز وآخرين في مجلة " قضايا اسلامية معاصرة " , ووضع اسماءنا مع اسماء كبيرة مثل؛ حسن حنفي وحسن الترابي ومجتهد شبستري وكثيرين, ولم تكن المجلة بحاجة الى اسمائنا، وهي مليئة بهذه الاسماء الكبيرة, لكنه اراد لنا ان نكون كباراً في وقت مبكر من حياتنا الفكرية، من خلال منحنا هذه الفرصة التي لا تتاح لنا لولاه.

بعد عودتنا الى الوطن سنة 2003، كان الرفاعي أول من فتح حقيبته بين ابناء جيله، تلك الحقيبة التي حملها لعقود من الغربة والسفر المجهول والتطواف في منازل الغرباء ومدنهم الضيقة، ليحسم امره بالعودة لوطنه والتماهي مع مصائبه واحزانه وانكسارات احلامه في ليل العائدين.

كانت حقيبة الرفاعي ممتلئة بالمواطنة والتدين العقلاني والظمأ الانطولوجي للدين وحكايا اخرى عن لوعة الغربة ونهاياتها المحزنة، وبعد ان افرغ العائد الى وطنه حقيبته من الالتزام الحزبي والطائفي، جاء ليعلن ان الوطن هو الحزب الكبير الذي يجب ان ننتمي اليه وان المواطنة هي اقدس شعار يمكن ان نكتبه على لافتاتنا التي مزقتها الغربة وعبثت بألوانها.
هكذا تعرفت على عبد الجبار الرفاعي داخل الوطن لأعيد قراءته من جديد بعيون وطنية، لاكتشف ان رجلاً من بين العائدين كان ينطوي على ذاته حينما تبدأ وليمة اقتسام السلطة، ويبتعد عن طائفته حينما يشم من بعض شيوخها رائحة الطائفية، ويزهد بالمناصب والامتيازات حينما يتحاصص عليها ابناء جيله وحزبه الذي غادره دون ان يشتمه او يعاديه.

عبد الجبار الرفاعي الشيخ والاكاديمي, المفكر الانسان فتح اذهاننا للمعرفة, مع المحافظة على جذور التراث في اعماقنا, واوقد لنا درب الحداثة والمعاصرة, حينما اشعل لنا كل زوايا النفق المعتم الذي كدنا ان نضيع فيه.
تحية خالدة للدكتور الرفاعي الذي كلما ابتعد عن الاضواء زاد اشراقاً وحضوراً.
تحية الى الرفاعي – الفعل المطلق -

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق