السياب .. عبقرية تخطي التاريخية أو الزمانية
وسام العاني || شاعر وكاتب عراقي
* بمناسبة اسبوع السياب الثقافي الذي اطلقته نخيل عراقي
كيف يمكن للشاعر أن يتخطى الأحداث الآنية التي تحيط به ويتخطى تأثيراتها المباشرة على حياته ومدركاته، وكيف يمكنه تجاوز حقيقة أن ذاته الشاعرة ما هي إلا نتاج تراكم وتفاعلات هذه الأحداث وما يسبقها من إرهاصات أو ما يتبعها من تأثيرات تمتد بأثرها النفسي في أعماق الشاعر إلى مَدَيات لا يمكن تصورها، أو على الأقل لا يمكن قياسها بأي وحدة قياس معرفية لتحديد دورها الفاعل في البناء النفسي الكامن وراء الفعل الإبداعي.
السؤال يأتي بصيغة الاستغراب المتولد عن فكرة استحالة فصل الذات عن الواقع. فبرغم كل ما كتب في التراث الأدبي العالمي عن العزلة وتأثيرها في تهيئة المناخ المناسب للإبداع، إلا أن هذا التراث لم يشرح لنا، بطريقة علمية بحتة، أثر العزلة في تطور النبوغ والعبقرية لدى الشاعر بما يمكنه من تجاوز الحاضر، بكل ارتداداته العنيفة، وتخطي التاريخية والزمانية وتوجيه الخطاب نحو المستقبل بالمطلق. لكن يحسب لـ(فوزي كريم) أنه لفت انتباهنا، في معرض كلامه عن (السياب)، إلى ما يسميه "المعترك الداخلي" وحسم موقفه في هذا الموضوع قائلاً: "عزلة السياب عن المعترك الأيديولوجي الصاخب في محيطه العراقي والعربي كانت عزلة "شعرية" عميقة غير ظاهرة. الشعر، وليد المعترك الداخلي، لم يترك للسياب فرصة الخوض في المعترك الخارجي إلا في الظاهر".
أما أدونيس فقد وضع معياراً أساسياً في أهمية الشعر عندما قال: "الشعر يتخطى التاريخية أو الزمانية ويخاطب المستقبل في المطلق". وقد جاءت هذه المقولة المهمة في معرض كلامه عن (السياب) بعد أن وصفه بأنه علامة فارقة أساسية بين شعراء الحداثة، وذكر كيف أنه اختار مجموعة من قصائده ليضمها في ديوان "أنشودة المطر" الذي أصدرته مجلة (شعر) آنذاك.
في حالة السياب، وأنا أرى مقولة (أدونيس) أعلاه واقعية جداً، فإن السياب تخطى التاريخية والزمانية بأسلوب نادر، فهو لم يخرج من لحظته الراهنة بشكل كامل، بل لم يكن خروجه جسدياً أو ذهنياً بقدر ما كان خروجاً من أثر اللحظة القابض على مدركات الشاعر إلى ما هو أبعد زمانياً، مع البقاء في إطار الحدث الراهن من خلال استعادة المسميات من واقعها الساكن إلى عالمها الديناميكي الحر عبر زجها في صور شعرية مفتوحة الأبعاد زمانياً ومكانياً، ويضيف (فوزي كريم) في هذا المجال قائلاً: " جيكور أو بويب السياب تحولا في لحظات استعادتهما من قبل الشاعر الى مدينة ونهر لا ينتسبان للزمان التاريخي الظاهر، بل لزمان السياب الداخلي. الزمان الخالد. تماما كما تخلق الأساطير في مخيلة الشعوب". ولا أدري على وجه التحديد إن كان هذا مقصودا من السياب بعبقرية فائقة أم أنه، مثله مثل كل الشعراء العظماء، انتبه في لحظة زمنية فارقة إلى أهمية ودور الشعر في الحضور في المستقبل، من خلال الوقوف على منصة الحاضر بكل ما يحيط بها من ضجيج اللحظة الراهنة.
بمراجعة الإرث الشعري العظيم للسياب، نكتشف أنه لم يغادر التاريخ الحاضر أو الزمن الراهن، للعراق آنذاك، إلى عالم الغموض والتلغيز عبر استعارة فضاء ضبابي تنطلق منه القصيدة بجناحي الأسطورة والرمز، بل وقف على صعيد الحدث الراهن، متجاوزاً كل الجروح والخدوش التي أحدثتها منعطفات هذا الحدث ونتوءاته المسننة وحوافه الجارحة، ليصدح بصوت نقي مخاطباً إنسان المستقبل بكل ثقة، على أن هذا الخطاب لم يكن مباشراً ولا باستخدام أدوات اللغة التقليدية، بقدر ما هو تصوير فني يضع القارئ في مكانه الموعود من الزمن القادم.
إن خلود الشعر يتأتى من قدرته على النفاذ إلى المستقبل، متخطياً كل حواجز الزمكان وكل تأثيرات البيئة بحمولاتها العالية، ومن قدرة الشاعر على استشراف مكانة الشعر والإنسان في المستقبل عبر وقوفه على ما يتراكم من أحداث تاريخية من حوله، وعبر استعادته أيضاً لتفاصيل هوية المكان التي يمكن من خلالها صناعة مدن وقرى وأنهار تشكل لاحقاً جزءاً من الأسطورة التي تخلقها المجتمعات في وعيها الجمعي، وهذا ما حققه السياب عبر تجربته الشعرية الهائلة رغم الزمن القصير الذي عاشه.
ربما هذا يفسر الشغف الدائم في العودة إلى قراءة المنجز الشعري والحداثي للسياب، ويضعه في سياقه الإبداعي والإنساني في ضوء تطور تجربة الشاعر المبدع في التعامل مع الحياة وقدرته على فهم دوره في تحويل الراهن إلى بوابة مفتوحة الأبعاد للمستقبل.
ارسال التعليق