نزعة الأغتراب في الشعر العربي المعاصر

لطيفة الأعكل

لا يزال مفهوم الاغتراب غامضاً، ونادراً ما يتفق الباحثون على تحديد مفهومه الواضح، بحيث تختلف الآراء عن المصدر أهو حالة مجتمعية، أم حالة شعورية نفسية ذاتية، أم نوعاً من السلوك الفردي؟.

 


لطيفة الأعكل/ناقدة مغربية


لا يزال مفهوم الاغتراب غامضاً، ونادراً ما يتفق الباحثون على تحديد مفهومه  الواضح، بحيث تختلف الآراء عن المصدر أهو حالة مجتمعية، أم حالة شعورية نفسية ذاتية، أم نوعاً من السلوك الفردي؟.
ولا بأس من اِستعراض بعض وجوه الاغتراب عند مجموعة من علماء النفس الاجتماعيين.
فمفهوم الاغتراب عند عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم يقوم على فكرة تفكك القيم والمعايير الاجتماعية، بحيث لا تتمكن من السيطرة على السلوك الإنساني وضبطه؛ حيث فقدت القيم والرموز، والمعايير سيطرتها على الإنسان الحديث وعلى تصرفه، بعد أن أصبحت نسبية ، ومتناقضة، ومتغيرة باستمرار، وبسرعة.
كما يعرف أستاذ علم النفس Morton  Grodzins الاغتراب بأنه ( الحالة التي لا يشعر فيها الأفراد بالانتماء إلى المجتمع أو الأمة ).
أما عالم النفس الاجتماعي الدكتور حليم بركات فيعبر في مقال له عن (الاغتراب  والثورة)/ م.مواقف ع5/ س 69) بأنه عملية صيرورة تتكون من ثلاث مراحل:
الأولى: تبدأ  على الصعيد المجتمعي وبنياته الإجتماعية -السياسية والاقتصادية، ووضع الإنسان العاجز فيها، ومدى تمكن القيم والمعايير من السيطرة على السلوك.
الثانية: هي مرحلة الاغتراب الحق بوصفه تجربة نفسية شعورية عند الفرد العاجز، تتصف بعدم الرضى عن الأوضاع القائمة، ورفض الاتجاهات والقيم و الأسس السائدة.
الثالثة: هي النتائج السلوكية يمكن أن تكون واحدة من الآتي:
الانسحاب من المجتمع
الرضوخ له ظاهراً والنفور ضمناً
التمرد والثورة عليه 
وانطلاقاً من بعض هذه المفاهيم يمكن 
اِعتبار الاغتراب ظاهرة وجودية ترتبط بالزمان والمكان، وهي قديمة قدم الشعر العربي ترجمتها التجربة الشعرية للكثير من الشعراء خاصة العباسيين، وكمثال على ذلك أبو العلاء المعري، فقد بلغت عنده ذروة الاغتراب النفسي، والزماني، والمكاني أقصاها حتى سمى نفسه ''رهين المحبسين'' ويعبر عن ذلك في قوله :
أراني في الثلاثة من سجوني 
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري، ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث

وقد بات الاغتراب قضية وجودية إنسانية معاصرة، تجسد مقدار معاناة المثقف العربي الرافض، والمتمرد على الواقع السياسي الخانق للحريات، والاجتماعي المتردي داخل وطنه. واِتسمت ردود فعله بالانسحاب، والهروب والهجرة، واِختيار الغربة والاغتراب.
وتجلى هذا الواقع على شكل اِغترابات متنوعة لدى الشاعر العربي الحديث والمعاصر.
وتعد قصيدة ''غريب على الخليج'' للسياب نقطة اِنطلاق لشعر الغربة والاغتراب في الشعر العربي المعاصر . كتبها أثناء إقامته في الكويت بعيداً عن العراق؛ وجاءت تعبيراً صادقاً عن معاناته النفسية، وعن ألم الذكريات، وحنينه وشوقه للعراق، وشعوره المرير بالاغتراب:

أعلى من العُباب يهدر رغوه ومن الضجيج
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثّكلى: عراق
كالمدّ يصعد كالسّحابة كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي: عراق
والموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق... 
وكنت دورة أسطوانه 
هي دورة الأفلاك من عمري، تكور لي زمانه
في لحظتين من الزمان، وإن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلّقان مع الرؤى حتى أنام

ومن خلال اطلاعنا على دواوين شعر السياب نلمس أن الاغتراب كان يشكل جوهر شعره، وحياته، ومعاناته الإنسانية في غربته بعيدا عن بلده العراق.
وتزداد غربة السياب قسوة، فالمرض ينهش جسمه، والفشل في الحب يحاصره، والموت قدرٌ سلبه أمه وهو في السادسة من عمره ( وأمي طواها الردى المعجل )، وقُسِم ظهره بموت جدته التي ربته وكانت سندا له، يقول:

جدتي من أبثُّ بعدك شكواي
طواني الأسى وقلّ معيني
أنت يا من فتحت قلبك
بالأمس لحبي أوصدت قبرك دوني

إنها ثنائية الحياة والموت، قمة الشعورعند السياب بالأسى والحزن والاغتراب.
وبالعودة إلى ديوان الشاعر صلاح عبد الصبور أحد رواد الحركة التجديدية في الشعرالعربي المعاصر نلمس أن جل أشعاره تتسم بالحزن، وقد أكد ذلك بنفسه في حديثه عن تجربته الشعرية، فهو يتحدث عن الضياع، والتمزق النفسي، والاضطراب الداخلي، والقلق الوجودي، والغربة الذاتية ويتجلى ذلك في قصيدته ( أغنية الشتاء) التي يعبر فيها عن مدى اِغترابه:

يُنبئني شتاء هذا العام أنني أموت وحدي
ذات مساء مثله، ذات مساء
وأنّ أعوامي التي مضت كانت هباء
وأنّني أقيم في العراء 
يٌنبئني شتاء هذا العام أن داخلي...
مُرتجفٌ بردا
وأنّ قلبي ميت منذ الخريف...
قد ذوى حين ذوت

فالأغنية هنا  ليست دلالة على التغني بالفرح بل هي دلالة على مدى الإحساس الداخلي بالألم، وبالوجع، والمعاناة؛ ومدى الحزن الدفين المقيم في الأعماق.
ومن خلال اِستعراض بعض أنواع الاغتراب عند الشاعر السياب، والشاعر صلاح عبد الصبور، يمكن أن نخلص إلى أن الغربة من مكونات الاغتراب الأساسية، وأنه لا يمكن الفصل بينهما، وأن الاغتراب هو وليد الشعور عند الشاعر المغترب بالقهر والمعاناة، والصراع من أجل الحياة.
 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق