سياسة الهجرة الألمانيَّة وانعكاساتها على المهاجرين العراقيين

كانت ألمانيا، المعروفة ببراعتها الاقتصاديَّة وتنوعها الثقافي، منذ مدة طويلة إحدى الوجهات المهمة والجذابة للمهاجرين الباحثين عن الفرص والأمان والحياة الأفضل، إذ تطورت سياسة الهجرة الخاصة بها على مرِّ السنين، الأمر الذي يعكس الديناميكيات العالميَّة المتغيرة والاحتياجات الديموغرافيَّة والاقتصاديَّة لألمانيا، لذا سنستعرض في هذا المقال سياسة الهجرة الألمانيَّة، وكيف يمكن أن يكون لها تأثير في دولة مثل العراق، ذات تعداد سكاني عال، ولها تاريخ حديث من الهجرة الواسعة، وخصوصاً للعقول، الى البلدان المتقدمة.

 

السفير لقمان عبد الرحيم الفيلي
الخميس - 2023/11/16

كانت ألمانيا، المعروفة ببراعتها الاقتصاديَّة وتنوعها الثقافي، منذ مدة طويلة إحدى الوجهات المهمة والجذابة للمهاجرين الباحثين عن الفرص والأمان والحياة الأفضل، إذ تطورت سياسة الهجرة الخاصة بها على مرِّ السنين، الأمر الذي يعكس الديناميكيات العالميَّة المتغيرة والاحتياجات الديموغرافيَّة والاقتصاديَّة لألمانيا، لذا سنستعرض في هذا المقال سياسة الهجرة الألمانيَّة، وكيف يمكن أن يكون لها تأثير في دولة مثل العراق، ذات تعداد سكاني عال، ولها تاريخ حديث من الهجرة الواسعة، وخصوصاً للعقول، الى البلدان المتقدمة.

لمحة عامَّة عن سياسة الهجرة في ألمانيا:
لقد تشكل النهج الذي تتبناه ألمانيا في التعامل مع الهجرة من خلال الأحداث التاريخيَّة، واحتياجات سوق العمل، والاعتبارات الإنسانيَّة، والاتفاقيات الدوليَّة، وتشمل العناصر الرئيسة لسياسة الهجرة الألمانيَّة ما يلي:
* قبول طالبي اللجوء والهجرة (عموماً تكون الهجرة عمليَّة منظمة وقانونيَّة مع سابق تنسيقٍ مع الجهات الألمانيَّة، وقد تكون عمليَّة اللجوء بطرقٍ غير قانونيَّة مثل التهريب).
* تبني حريَّة الحركة في الاتحاد الأوروبي خاصة بالنسبة للعمالة الماهرة.
* قبول لم شمل الأسرة.
* وأخيراً برامج الاندماج لتشمل اكتساب اللغة والتوجه الثقافي ودعم التوظيف والمشاركة المجتمعيَّة لتسهيل الاندماج الناجح للوافدين الجدد.
تؤثر مشاركة ألمانيا في سياسات الحد من الهجرة غير الشرعيَّة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي في الديناميكيات الإقليميَّة، وهي تتعاون مع الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد لتطوير مناهج مشتركة لقضايا مثل مراقبة الحدود، وإجراءات اللجوء، وإعادة توطين اللاجئين، وإعادة المهاجرين غير النظاميين.
ومن الممكن أنْ يكون لهذا الجهد التعاوني آثارٌ على البلدان أو المناطق المجاورة، بما في ذلك بلدان الشرق الأوسط، بضمنها العراق.
ونتيجة لذلك، يوجد في ألمانيا عددٌ كبيرٌ من السكان المهاجرين، ووفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني، في العام 2022، كان هناك ما يقارب من (13.38) مليون شخص من أصول أجنبيَّة يعيشون في ألمانيا، وهذا يشمل كلاً من المهاجرين وأسرهم. 
وبلغت نسبة السكان ذوي الخلفيَّة الأجنبيَّة في ألمانيا نحو 18 % في العام 2022. 
ويشمل هذا الرقم الأفراد الذين ولدوا في الخارج وأولئك الذين لديهم أحد الوالدين على الأقل ولد في الخارج، وتأتي أكبر مجموعات المهاجرين من دول مثل: تركيا وبولندا وسوريا وإيطاليا واليونان، وهناك أيضاً أعدادٌ كبيرة من المهاجرين من دولٍ أوروبيَّة أخرى وآسيا وأفريقيا والأميركيتين.

السياق التاريخي:
لقد شهدت سياسة الهجرة والتنمية في ألمانيا منذ الحرب العالميَّة الثانية تغيرات كبيرة، وتأثرت بالأحداث التاريخيَّة والاحتياجات الاقتصاديَّة والسياقات الاجتماعيَّة والسياسيَّة المتطورة، وبدأت سياسة الهجرة والتنمية في ألمانيا في فترة ما بعد الحرب العالميَّة الثانية بسياسات توظيف العمال الضيوف (من خمسينيات الى سبعينيات القرن الماضي) بسبب النقص الكبير في العمالة في أعقاب الازدهار الاقتصادي بعد الحرب، والمعروف باسم «المعجزة الاقتصاديَّة» (كما أشرنا في مقالتنا الثانية). 
واستقر العديد من هؤلاء العمال الضيوف في المقام الأول من جنوب أوروبا (مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا وتركيا) في نهاية المطاف في ألمانيا، ما أدى إلى تشكيل مجتمعات المهاجرين.
في العقدين السابع والثامن من القرن المنصرم، نفذت ألمانيا سياسات لم شمل الأسرة التي سمحت للعمال الضيوف بإحضار أسرهم للانضمام إليهم في ألمانيا، وقد أسهمت ذلك في نمو أعداد المهاجرين في البلاد. 
وعليه بدأت الحكومة الألمانيَّة في إدراك الحاجة إلى تدابير اندماج طويلة المدى حيث أصبحت مجتمعات المهاجرين هذه أكثر رسوخاً.
شهدت ألمانيا بعد ذلك زيادة في عدد طالبي اللجوء خلال الثمانينيات والتسعينيات، خاصة من البلدان التي تعاني من مناطق الأزمات مثل البلقان والشرق الأوسط. 
وأدى ذلك أيضاً إلى مناقشات وتعديلات في السياسات في ما يتعلق بقضايا اللجوء واللاجئين.
في مطلع العقد الأول من القرن الحالي، أدخلت ألمانيا إصلاحات كبيرة في قانون الهجرة والجنسيَّة تهدف إلى إنشاء نظام هجرة أكثر تنظيماً، وسمحَ إدخال البطاقة الزرقاء في عام 2012 (البطاقة الزرقاء تابعة للاتحاد الأوروبي هي تصريح إقامة مؤقت يتمُّ إصداره لمدة أربع سنوات) للمواطنين ذوي المهارات العالية من خارج الاتحاد الأوروبي بالعمل والعيش في ألمانيا بسهولة أكبر، ما أدى إلى جذب المواهب من جميع أنحاء العالم، كما أصبحت المواطنة المزدوجة متاحة بشكلٍ أكبر لأولاد المهاجرين، ما يمكنهم من الحفاظ على روابطهم الثقافيَّة والأسريَّة. 
ونتيجة للتدفق الكبير للهجرة، واجهت ألمانيا تحدياتٍ تتعلق بالهجرة، بما في ذلك المناقشات حول اندماج المهاجرين، والتعدديَّة الثقافيَّة، والقضايا المتعلقة بالتماسك الاجتماعي، إذ شهدت البلاد تقلبات في الرأي العام والمناقشات السياسيَّة المتعلقة بالهجرة، حيث دعت بعض الأحزاب إلى فرض ضوابط أكثر صرامة على الهجرة، بينما أكد البعض الآخر على القيم الإنسانيَّة والانفتاح.

معالجة تحديات الهجرة:
تعملُ ألمانيا بنشاطٍ على التصدي لتحديات الهجرة التي تواجهها من خلال تنفيذ سياسات ومبادرات مختلفة تهدف إلى تحسين اندماج المهاجرين، وإدارة تدفق طالبي اللجوء، ومعالجة الآثار الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الأوسع للهجرة، وتشمل بعض الاستراتيجيات والتدابير الرئيسة التي اتخذتها ألمانيا ما يلي:
* برامج الاندماج
* اكتساب اللغة
* التدريب المهني والتوظيف
* الإسكان والخدمات الاجتماعيَّة
* لم شمل الأسرة
* التبادل الثقافي والتنوع
* الاعتراف بالمؤهلات الأجنبيَّة
* الإصلاحات القانونيَّة
* التوعيَّة العامة والتعليم
* تيسير إجراءات طلبات اللجوء
* تعزيز الرقابة على الحدود
* التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى لتطوير مناهج مشتركة لقضايا الهجرة واللجوء.
من المهم ملاحظة أنَّ معالجة تحديات الهجرة هي عمليَّة مستمرة، وقد تستمر السياسات والتدابير في التطور استجابة للظروف المتغيرة. 
ويعكس النهج الذي تتبناه ألمانيا في التعامل مع الهجرة التزامها بإيجاد التوازن بين القيم الإنسانيَّة واحتياجاتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة مع تعزيز التماسك الاجتماعي والتكامل والسعي لإدماجهم على المدى الطويل في المجتمع.
في الوقت الذي تجلب فيه الهجرة فوائد عديدة لدولة مثل ألمانيا، إلا أنها تفرض أيضاً تحدياتٍ ويمكن أنْ تكون لها آثارٌ سلبيَّة. 
ومن الضروري أنْ ندركَ أنَّ الآثار السلبيَّة للهجرة معقدة ومتعددة الأوجه، ويمكن أنْ تختلفَ اعتماداً على عوامل مختلفة مثل حجم الهجرة، والتركيبة السكانيَّة للمهاجرين، والسياسات الحكوميَّة.
وتمثلت بعض الآثار السلبيَّة للهجرة على ألمانيا بما يلي:
* الضغط على الخدمات العامة
* أزمة سكن
* تحديات التكامل العام
* الضغط على أنظمة الرعاية الاجتماعيَّة
* المنافسة الاقتصاديَّة للعمال المحليين
* خفض الأجور
* المخاوف الأمنيَّة
* زيادة التوتر الاجتماعي نتيجة الاختلافات في القيم والعادات والثقافات.
بينما التأثيرات الإيجابيَّة للمهاجرين كانت تقديمهم مساهماتٍ كبيرة في الاقتصاد والمجتمع الألماني، ويمكنهم لعب دورٍ حيوي في معالجة التحديات الديموغرافيَّة مثل شيخوخة السكان ونقص العمالة، ولقد تمَّ تصميم سياسات الهجرة وجهود التكامل في ألمانيا لمعالجة هذه التحديات والتخفيف من حدتها، ولكنها تعكس أيضاً التعقيدات المستمرة لإدارة الهجرة في مجتمع متنوع  وديناميكي.

تحديات المهاجرين العراقيين:
يواجه المهاجرون العراقيون في ألمانيا، حالهم حال المهاجرين من بلدان أخرى، مجموعة من التحديات والفرص خلال عمليَّة اندماجهم، في حين أنَّ العديد من تجاربهم قد تكون مماثلة لتجارب مجموعات المهاجرين الأخرى، إلا أنَّ هناك بعض القضايا الفريدة التي قد يواجهها المهاجرون العراقيون منها:
* الصدمة والخسارة والنزوح والتي يمكن أنْ تكون لها آثار نفسيَّة وعاطفيَّة كبيرة
* الوثائق الرسميَّة العراقيَّة
* بناء الشعور بالمجتمع وإيجاد شبكات دعم للمساعدة في الاندماج.
* الاختلافات الدينيَّة والثقافيَّة مع الألمان
* عقبات في تعلّم اللغة.
* صعوبات في الاعتراف بالمؤهلات في ظل المنافسة الكبيرة
* ديناميكيات الأسرة وتعقيدات إجراءات لم الشمل 
* القوالب النمطيَّة للتمييز وكراهيَّة الأجانب
* عقبات في التكيف الثقافي بسبب مواجهة الاختلافات في العادات والتقاليد السائدة.
ولعلَّ إحدى القضايا الرئيسة التي تواجه العديد من المهاجرين العراقيين في ألمانيا تتعلق بوضعهم القانوني وقضايا اللجوء، وهنا قد تكون للمهاجرين العراقيين أوضاعٌ قانونيَّة مختلفة في ألمانيا. 
ربما حصل البعض على اللجوء أو الحماية الثانويَّة، في حين قد يواجه آخرون تحديات قانونيَّة ومخاوف مستمرة تتعلق بوضعهم كمهاجرين، ويمكن أنْ تكون هذه القضايا أوامر قضائيَّة قطعيَّة وخصوصاً من الذين طلبوا اللجوء.
بالنسبة للعراقيين، فإنَّ فهم قضايا الهجرة واللجوء ليس مجرد مسألة فضول، بل أصبح مفتاحاً حيوياً للتعامل مع الحقائق المعقدة للمشهد العالمي المتغير بسرعة، فلقد شهد عراقنا، نصيباً من الاضطرابات والصراع على مرّ العقود الأخيرة، فشهدنا نزوح الكثير من أبناء شعبنا، سواء داخل حدودنا أو خارجها، وعاشوا ألم الفراق عن الأحبة، والسعي نحو ملاذٍ آمن، والتطلع إلى مستقبلٍ أكثر إشراقاً، وفي هذه التجارب، نتقاسم خيطاً مشتركاً مع عددٍ لا يحصى من الآخرين حول العالم الذين واجهوا تحديات الهجرة واللجوء لبلدان أخرى تحت عناوين كثيرة منها اللجوء الإنساني أو السياسي.
يوجد للعراقيين في الخارج جالياتٌ كبيرة من المغتربين منتشرين في جميع أنحاء العالم ومنها ألمانيا، وإنَّ الفهم الدقيق للهجرة يتيحُ لنا تقديم دعمٍ أفضل لإخواننا العراقيين في الخارج، سواء كانوا طلاباً أو عمالاً ماهرين أو لاجئين، فهذا الفهم سوف يساعدنا على التواصل والدعوة والمساعدة عند الحاجة. 
وبالنسبة لأولئك الذين يختارون الهجرة وإقامة حياة جديدة في بلدان مختلفة، فإنَّ فهم الهجرة يساعدهم على التغلب على تحديات الثقافات الجديدة مع الحفاظ على تراثهم العراقي، فهذا سوف يسمح لهم بالحفاظ على هويتهم الثقافيَّة مع الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة. 
ومن المفيد التطرق لموضوعٍ خطيرٍ ومهمٍ جداً مرتبطٍ بهجرة الأدمغة العراقيَّة لخارج العراق، حيث يهاجر الأفراد المهرة إلى بلدان أخرى مثل المانيا، وهذا مصدرُ قلقٍ للعراق، دولةً ومجتمعاً، ويمثل استنزافاً للرأسمال البشري العراقي وللطبقة المتوسطة في المجتمع، وإنَّ فهم أسباب الهجرة يمكن أنْ يساعدنا في استكشاف طرقٍ لمعالجة هذه القضيَّة وتشجيع العراقيين المهرة على المساهمة في تنمية بلدنا ونحن في أمسِّ الحاجة لهم.

خاتمة:
بشكلٍ عامٍ، تعكسُ سياسة الهجرة والتنمية في ألمانيا منذ الحرب العالميَّة الثانية النهج المتطور الذي تتبعه البلاد في التعامل مع الهجرة، بدءاً من توظيف العمال الضيوف إلى إجراءات الهجرة والاندماج الأكثر تنظيماً، وقد تمَّ تشكيل هذه السياسات من خلال الأحداث التاريخيَّة والعوامل الاقتصاديَّة والمناقشات السياسيَّة، بهدف الموازنة بين الاهتمامات الإنسانيَّة وأهداف التكامل الاقتصادي والاجتماعي. 
إنَّ سياسة الهجرة التي تنتهجها ألمانيا متعددة الأوجه، وتعكسُ التزامها بالمبادئ الإنسانيَّة، والاحتياجات الاقتصاديَّة، والتعاون الدولي. 
وله تأثير عميق في بلدان مثل العراق، إذ يبحث الناس عن ملجأ من الصراع وعدم الاستقرار أو يبحثون عن فرصٍ للتعليم والعمل في الخارج، ومن الضروري أنْ نعترفَ بأنَّ العالم أصبح ديناميكياً أكثر من أي وقتٍ مضى، والمستقبل غامض، ومن خلال فهم الهجرة ودوافعها، فإنَّنا نعد أنفسنا لعالم تكون فيه الحركة والتغيير من الثوابت، هذه المعرفة تؤهلنا للتكيف والازدهار وإيجاد الفرص حتى في مواجهة عدم اليقين.


 


 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق