دونالد ترامب أم كاملا هاريس: أيهما الأسوأ؟

طارق أمين

في الذاكرة الشعبية العربية قصة هزلية عن لصّين حاولا سرقة تاجر في ليلة من الليالي ولما استفاق الأخير من نومه على وقع صوت أحدثاه هذين اللصين اتجه مباشرة الى المكان الذي يصدر منه هذا الصّوت محاولا الإمساك بأحدهما الذي حاول مقاومة التاجر إلى أن صدرت منه "ضرطة" كريهة جعلت التاجر يفلته من قوتها. وشاءت الأقدار يوما أن احتاج التّاجر إلى من يساعده في محله لحمل البضائع فاستأجر أخوين توأم يشتغلان كحمالين لحمل البضاعة وترصيفها في المحل.

 

 


طارق أمين/باحث تونسي

 

في الذاكرة الشعبية العربية قصة هزلية عن لصّين حاولا سرقة تاجر في ليلة من الليالي ولما استفاق الأخير من نومه على وقع صوت أحدثاه هذين اللصين اتجه مباشرة الى المكان الذي يصدر منه هذا الصّوت محاولا الإمساك بأحدهما الذي حاول مقاومة التاجر إلى أن صدرت منه "ضرطة" كريهة جعلت التاجر يفلته من قوتها. وشاءت الأقدار يوما أن احتاج التّاجر إلى من يساعده في محله لحمل البضائع فاستأجر أخوين توأم يشتغلان كحمالين لحمل البضاعة وترصيفها في المحل.
في أحد الأيام وعندما كان أحدهما يساعده في العمل انحنى فخرجت منه "ضرطة" كريهة كتلك التي خرجت من السارق تلك الليلة. دُهش التاجر وانهال على الرجل يركله متهما إياه بالسرقة واقتاده إلى الوالي ليفصل بينهما. ولما وصلا لم يكن التاجر يحمل من دليل يدين الرجل سوى أنه سمع ضرطته الكريهة التي جعلته يشك فيه. أنكر الرجل التهمة الموجهة إليه قائلا:" لم أكن أنا وإنما عادة يفعلها أخي..."فكر القاضي مليا ثم أمر بإحضار أخيه وأمر بأن يطعماهما بيض دجاج مسلوق مع لبن مما يجعلهما يطلقان صوت الريح. وبعد لحظات بدأ الرجلان بإطلاق أصوات ريح كانت كريهة جدا. وهنا سأل القاضي التاجر عن صاحب الرائحة التي اشتمها من السارق فأردف الرجل قائلا:
"كلا الأخوين ضراط ولكن شهاب الدين أضرط من أخيه "
إن هذه القصة المستمدة من التراث العربي وإن كانت ذات بعد هزلي فكاهي إلا أنها قد انتهت بمثلٍ أصبحت العرب تتداوله كلما كان حديثهم حول المفاضلة بين أمرين أو شخصين سيئين ولكن أحدهما أشد سوء من الآخر.
لقد تبادر إلى ذهني هذا المثل وأنا أتابع ردود أفعال الشارع العربي مع نتائج الانتخابات الأمريكية التي انتهت بفوز مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترمب. وما شد انتباهي أنه هنالك شبه إجماع على أن ترمب سيكون أسوء بكثير من مرشحة الحزب الديموقراطي كاملا هاريس على مستوى موقف الإدارة الأمريكية من ملف حرب غزة ولبنان والدعم اللامشروط لحكومة اليمين المتشدد الصهيونية التي يتزعمها بنيامين نتانياهو وذلك أيضا على مستوى موقف هذه الإدارة من الملف النووي الإيراني ومن الاتفاقيات الأمنية المبرمة مع دول الخليج.
إن هذا موقف الثاوي في الوعي العربي السياسي على أقل تقدير ينمُّ حقيقة عن سوء فهم وسوء تقدير لطبيعة إدارة الحزب الديموقراطي وإدارة نظيره الجمهوري- إن صح فعلا أن نطلق عليها لفظ إدارة- إزاء هذه الملفات والقضايا التي سوف تحدد لا طبيعة الأمن الإقليمي والتحالفات الجيوسياسية في الشرق الأوسط فقط وإنما في العالم أيضا.
في علم التحليل السياسي  على مر التاريخ نقف على نمطين من العلاقات في مستوى العمل بين الدول والمنظمات والكيانات والأحزاب علاقة أولى تكون عضوية organic وأخرى تكون مصلحية تبنى على المصلحة المؤقتة. إن هاريس والحزب الديموقراطي أخطر على الشرق الأوسط وعلى دول الخليج والعالم الإسلامي عامة من دونالد ترمب لأن إدارتها في الحقيقة وهي مواصلة لإدارة بايدن لا تربطها بالكيان الصهيوني علاقة مصلحة مؤقتة فقط وإنما هي علاقة عضوية كعلاقة اليد بسائر أعضاء الجسم.
ولنا أن نستحضر لو نعد بالذاكرة قليلا إلى ما قاله بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن في الأيام الأولى من طوفان الأقصى عندما أحست الإدارة الأمريكية بأن المستقبل الوجودي لابنها المدلل في الشرق الأوسط قد أصبح على المحك " لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها " فمن مصلحة الولايات المتحدة حسب تصور الإدارة الديموقراطية أن تكون إسرائيل ذات اليد العليا والهراوة الكبرى في الشرق الأوسط لنفيذ مخططاتها    الاستعمارية.
ولو نعد إلى الفريق الذي عينته هذه الإدارة في عهدة الرئيس بايدن وننظر في خلفياتهم الفكرية والدينية والأيديولوجية فإننا حتما سنجدهم صهاينة برتبة مواطنين أمريكيين، فأنتوني بيلنكن الذي أسلفنا ذكره على سبيل المثال هو يهودي من أسرة يهودية بامتياز عاش وترعرع في فرنسا أين يسيطر اللوبي الصهيوني بالمال والنفوذ الاقتصادي على كل مفاصل الدولة. ولذلك رحب به الكيان الإسرائيلي كثيرا غداة تنصيبه على رأس خارجية بايدن.
إن سياسة الحزب الديموقراطي على مر التاريخ الحديث في أمريكا وصولا إلى أوباما وبايدن  هي سياسة لا تخدم الصهيونية على أسس اقتصادية واستراتيجية فقط وإنما هي سياسية مؤسسة ومنظرة على المستويين الفكري والايديولوجي أيضا، أما ترمب فهو على الرغم من أنه لن يخرج كثيرا من عباءة التصور السياسي الأمريكي التقليدي للكيان وما ينتج عنه من تحالفات عسكرية وجيوسياسية تجعل اسرائيل العصا الغليظة التي تضرب بها أمريكا في الشرق الأوسط ،إلا أن العقل الذي يحكم إدارة تصوره السياسي هو العقل المصلحي المؤقت القائم على الربح والمال  تحت عرف البورصة والشركات الامريكية العملاقة التي تبحث عن مصلحتها حتى وإن كانت في تحالفها مع الشيطان .
وعليه أتصور شخصيا أن إيران في عقلها الساسي الباطني لا الإعلامي الممسرح والمقدم للعموم للاستهلاك الإعلامي ستكون سعيدة بفوز ترمب لأنها تعلم أن مناقشة القضايا الإقليمية معه تحت منطق المال ستكون أسهل وألين من التعامل مع الإدارة الديموقراطية التي سيطر فيها اللوبي الصهيوني بالطول والعرض على كل مفاصلها من الكونغرس إلى مجلس الشيوخ وصولا إلى الخارجية ومكتب الرئيس. وكذلك الأمر بالنسبة لحليفتها روسيا التي ستجعل من الملف الاقتصادي والشراكة التجارية مع الولايات المتحدة أرضية ملائمة لإعادة تسوية خلافاتها مع الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب.
في نهاية الأمر إن العقل السايسي الأمريكي المؤسس لسياستها الخارجية سواء أكان مع الحزب الجمهوري أو الديموقراطي لن يخرج عن خطّه العريض العام في كثير من الملفات الإقليمية التي يحدد مصيرها الجيش لا الإرادة السياسية، ولكن إن كان الحزب الديموقراطي في العقدين الأخيرين على الأقل ذا مفعول وأثر سيء عميق ومجدول على صعيد مستقبل الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية على الأقل فإن خصمه الجمهوري تحت رئاسة رجل الأعمال والأموال ترامب لن يكون أسوء منه، وهو مفتوح أكثر على منطق التفاوض.
 والأيام بيننا.
 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق