الفن لصناعة الرأي

فتحية دبش

يبدو أن الوعي العربي يقف وجها لوجه أمام التحدي الأكبر، وهو السعي حثيثا إلى إعلاء قيمة الفنون من أجل إنقاذ صورته من النمطية أولا والتي أصبحت تتجاوز الغرب الأبيض إلى الهند وافريقيا وبالتالي نحت صورة جديدة له تنسف الأولى.

 

فتحية دبش/كاتبة تونسية


يبدو أن الوعي العربي يقف وجها لوجه أمام التحدي الأكبر، وهو السعي حثيثا إلى إعلاء قيمة الفنون من أجل إنقاذ صورته من النمطية أولا والتي أصبحت تتجاوز الغرب الأبيض إلى الهند وافريقيا وبالتالي نحت صورة جديدة له تنسف الأولى.
صدمتان حضاريتان جديدتان يواجههما العالم العربي. الأولى ما نراه من التفاف الغرب حول الكيان الصهيوني وسرديته المتعلقة ب"الوطن الموعود وحرب الحضارة ضد الوحشية" التي تجد لها جذورها في الدين،  ويدافع عنها الغرب بكل شدة، رغم أنه لا يفتأ يرفع شعار رفض الأديان ومحاربتها بل وحتى تجاوز سرديتها غالبا. 
هذا الالتفاف ساهم في ترك آلة الحرب طليقة في غزة حتى وصل ضحاياها زهاء الأربعين ألف قتيل علاوة على الذين لم يشملهم التعداد لسبب أو لآخر، هذا إلى جانب المشردين في شتات غزة المحاصرة. 
وأما الصدمة الثانية فهي ما نشهده هذه الأيام من جدل يثيره الفلم الهندي حياة الماعز، حيث انتقد نظام الكفيل في المملكة العربية السعودية وأثار ضجة اضطرت بعض السعوديين للرد بمقاطع مصورة يظهرون فيها مع العملة الهنديين في سردية مضادة.
نشاهد في الفلم تحولا جذريا في سينما بولييود من سنما ترفيهية استهلاكية إلى أخرى ملتزمة وموجهة بشحن المتلقي بصور جديدة للهند وللهندي يعي فيها ذاته ووطنه وقيمته الإنسانية بعدما سلخته السرديات الغربية منها، وقدمته على هيأة المتسول والهمجي، كما فعلت دائما عند تصويرها للآخر. وليس أدل على ذلك من فلسفة الاستشراق وما روجته من صورة نمطية تكاد تكون القاعدة حتى اليوم في اعتبار الغرب للشرق. 
إن كان لهاتين الصدمتين من نفع فهو استفاقة العقل العربي على أهمية السردية في صناعة الرأي وكسر الصورة النمطية واستقطاب الآخر. وهو ما لم ينجح فيه الفن العربي إلى الآن. ذلك أنه فن محلي، موجه بالضرورة إلى الداخل لا إلى الخارج، مسيج بالممنوعات والاعتبارات. ذلك ما جعله لا يبرح رقعته الجغرافية ولا يساهم في صناعة الرأي الخارجي، ولا يُرفع سلاحا في وجه الآخر المحتل فكريا أو سياسيا، بل إنه يستخدم للتهريج والتنفيس ولإقناع المشاهد بقدرية الأشياء. وللمشاهد أن يتأمل المسلسلات والأفلام حيث القصص نفسها تتكرر  والوجوه نفسها، والمتلقي هو نفسه.
لننظر إلى مواقع التواصل أيضا، سنلاحظ أن المؤثرين العرب غالبا ما يصبحون كذلك باستغلال الرقص أو الطبخ أو التقليد. أستثني من ذلك المؤثرين في غزة. الذين شاهدناهم في هذه الحرب يقدمون سردية الحصار الذي عاشوه والمقاومة التي يعيشونها، مما أقنع المنظمات المناهضة للح.رب والاحتلال وحرك الرأي العام الغربي واستقطبت جزءا منه ليحمل صوتها في المسيرات والساحات العامة فكان عونا للقضية الفلسطينية ووضع السردية الصهيونية  في وضع دفاعي سخرت له ما سخرت ولم تفلح في إخماد الإدانة والرفض حتى وإن لم تؤثر على القرارات السياسية حتى الآن.
بل وحتى وغزة تباد لم تتراجع قنوات المؤثرين العرب ولم تتغير محتوياتهم بل واصلوا وكأن شيئا لم يكن - مع التنسيب طبعا حيث لا يجوز التعميم-. على النقيض من هذا نلاحظ أن المؤثرين في الغرب ينوعون في إنتاجاتهم فتشمل كل القطاعات الفكرية والسياسية والفلسفية والقانونية وغير ذلك، بل حتى إنهم قدموا لغزة ما لم يقدمه المؤثرون العرب إلا قلة. 
من هنا نستخلص أن الأمم التي أدركت قيمة الصورة والصوت والفن عموما ومدى تأثيره صارت تسخر له جهودا مالية وبشرية، وتوفر له حيزا من الحرية من أجل صناعة سرديتها الخاصة وفرضها على العالم. من كان سيتحدث عن فلم هندي لولا حياة الماعز، ومن كان سيصدق السردية الصهيونية لولا جميلة اورشليم وغيرها؟
 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق