الخيال الشعري عند العرب أو الإرهاصات الأولى لبيان الحداثة
عادل المعيزي
عادل المعيزي/باحث تونسي
سوف تظل تجربة أبي القاسم الشابي الشعرية والنثرية واشكالياتها المعقدة ومآزقها وأسرارها تكشف لنا عن مفاتنها كلما حاولنا مراودتها في كل مرة، فشكرا للصديق العزيز محمد المي الذي دعاني إلى الإسهام في هذه الندوة لإعادة التأمل والتفكير من جديد في مسائل قد تبدو للوهلة الأولى من باب الترف الفكري، خصوصا إذا سلمنا بأن تجربته قد استنفذها البحث والتمحيص. في حين أننا إن رمنا الخوض فيها من جديد سنجد أكثر من مبرّر وأكثر من مسألة ملحة جديرة بالتناول خصوصا في هذا المفترق الحساس ليس في حياتنا الأدبية فحسب، وإنما أيضا في مختلف رؤانا الثقافية والاجتماعية والسياسية. فقد أصبح موضوع أسئلة الحداثة خلال العقدين الأخيرين من الموضوعات المسكوت عنها في الجدول النقدي. والمسكوت عنه واللامفكّر فيه عادة لا يقل فاعلية عن المصرّح به والمفكّر فيه لأنه يتحول إلى شيء متّفق عليه أشد أنواع الاتفاق.
ولعلي لست أبحث من خلال هذه المداخلة عن المسكوت عنه واللامفكر فيه فحسب وإنّما عمّا كان يمكن أن يُقال ويُكتب ولكنه لم يَنْقَلْ ولم ينكتب، إذ انشغلت لسنوات طويلة بسؤال قد يبدو ساذجا وعبثيّا وقد يبدو طفوليا أيضا إذ أنّه يسائل الأقدار ويفتح أبواب الجحيم على تراجيديا الإنسانية وعبث الوجود.فقد مثّلت وفاة الشابي المبكّرة جرحا غائرا في نفسي بعد أن عاشرت كتاباته الشعرية والنثرية والنقدية حتّى أصبحت أشعر بحسرة لا مثيل لها تنحدر بي إلى أعماق رؤاه وأحاسيسه ومشاغله وهو ما دفع بي إلى سؤال "لامنطقي" كنوع من التعويض عن قدر مقلوب ورغبة لمواجهة عبثية تناقضاته في محاولة لإعادة خلق واقع ينطوي على حل تجريدي أو خيالي بمعاضدة كونية الحدس لبعض حتمياته المستعصية عن الحلعبر السؤال العابث إيّاه "ماذا لو استمرّ الشابي في الحياة بعد الخامسة والعشرين وطال به العمر إلى سني الشيخوخة أو الكهولة ماذا كان سيكتب؟ وكيف كانت ستتجلى رؤيته"
لم يفعل الذكاء البشري لمراحل طويلة من الزمن سوى إنتاج الأخطاء على حد عبارة نيتشه لذلك ربما سيكون علينا في وقت ما تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي التي ستزودنا بالحقيقة وإن كانت في هيأة الشكل الأكثر هشاشة للمعرفة وسيكون علينا أن نُدخل كل كتابات وآثار أبي القاسم الشابي والسياق التاريخي والثقافي والسياسي الذي عاش فيه ليقوم بكل مدركاته الحسية وكل أنواع أحاسيسه عامة المتأصلة فيه منذ زمن ضارب في القدم عبر تكوينه البيولوجي والأنثروبولوجي من أجل الوصول إلى نفي سلطة الغرائز في عملية المعرفة وإنتاج عقل ذو نشاط كامل الحرية ونابع من نفسه، ونطلب بعد ذلك من منظومة الذكاء الاصطناعي أن تواصل الكتابة عوضا عن الشابي في السنوات التي تلت وفاته وسنطلع بعدها على كتاباته الشعرية ورؤاه النقدية وندرك آفاق تطورها! أليس هذا ضرب من الجنون؟!
إن تأملي من جديد في محاضرة الخيال الشعري عند العرب متسلحا بالسؤال العبثي إياه حول ماذا لو طال عمر الشابي، قد جعلني أنتبه إلى ارهاصات رؤيته التي إن قُدّر لها الاكتمال فلا شك أنّها ستكون مرادفا لمجموعة معقدة من التصورات والمفاهيم تطمح لتقديم أطروحات مختلفة بل ومنشقة عن أطروحات الحداثة العربية في العقود التي تلت وفاته ولكن أي حداثة كان الشابي سيتبنّى؟ هل هي حداثة الشك الشامل وغياب المركز المرجعي واللعب الحر للخيال ولا نهائية دلالاته؟ وهل هي حداثة لا شيء ثابت ولا شيء مقدّس فيها؟ فعلا لقد كانت رؤيا الشابي في حاجة إلى حداثة حقيقية تهز الجمود وتدمّر التخلف وتحقّق الاستنارة لكنها ليست نسخة مشوهة من الحداثة الغربية بل هي حداثتنا نحن التي تشترك في تطوير هامش مرجعي من توتر التراث والمعاصرة ومقاومة خطابية وبحث ثقافي عن الهوية وقد انتبه لذلك أستاذ النقد منجي الشملي حيث اعتبر أنّ المحاضرة "بيان خطير عن عقيدة الشابي الأدبية أولا وعقيدته الاجتماعية والسياسية بعد ذلك"
الخيال الشعري عند العرب الأب الشرعي لبيان الحداثة:
وقفت طويلا منذ السنوات الأولى، منذ ثمانينات القرن الماضي على وجه التحديد، أمام كتابات أبي القاسم الشابي وبالأخص أمام محاضرته "الخيال الشعري عند العرب" بإحساس ظلّ حتى وقت قريب مزيجا من الانبهار والشعور بالألم. الانبهار لأن شابا في العشرين من عمره يُدعى لتقديم محاضرة عن الخيال الشعري عند العرب في ليلة من ليالي سنة 1929 بدعوة من جمعية قدماء المدرسة الصادقية بتونس فيصدح برأي سيظل صداه يتردد لعقود طويلة خصوصا عندما ندرك أننا مازلنا نقيم في ذلك الماضي عبر المعرفة وما يكمن في درجة الحقيقة الواهمة التي تنطوي عليها وفي ترسخها وتأصلها في الأذهان وفي طابعها كشرط وجودي وإن بدا ظاهريا أننا ننتمي إلى حاضر هذا العصر ونقيم فيه "لقد أصبحنا نتطلّب حياة قويّة مشرقة ملؤها العزم والشباب، ومن يتطلّب الحياة فليعبد غده الذي في قلب الحياة. أما من يعبد أمسه وينسى غده فهو من أبناء الموت وأنضاء القبور الساخرة".هذاالرأي كان من المفروض أنه سيفتح باب الحداثة الشعرية التونسية على مصراعيه وسيقود النقد العربي إلى ما آل إليه في نهاية خمسينيات القرن العشرين وما بعدها من جدل مستفيض حول أسئلة الحداثة الشعرية خصوصا بعد نشر سوزان برنار لأطروحتها سنة 1958 تحت عنوان"قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن". لكن ذلك الانبهار، كما قلت، خالطه طوال الوقت شعور عميق - كنت أفصح عنه من حين إلى آخر في بعض الكتابات - بالألم: ألم مردّه القطيعة التي حدثت بين تراث الشابي وسلفه من الأجيال الشعرية التي أتت بعده وصولا إلى ستينات القرن الماضي إذ أدارت النخبة التونسية ظهرها لمنجز الشابي بعد وفاته وعجزت عن التعامل مع محاضرته رغم أنه نشرها في كتاب، وعجزت عن فهم أهدافها والآفاق التي فتحتها أمام القصيدة العربية في تونس.. ومما كان يعمق ذلك الاحساس بالألم أن محاضرة الشابي كانت بيانا تنذر بولادة ما سأسميه ب"الشعر الأفقي" في مقابل الشعر القديم الذي كان العمود مداره والتراتبية مركزه، كانت بيان حداثة حقيقية لم ينتبه مجايلوه إليه..
إنني من خلال هذه المداخلة مثلما ذكرت آنفا أحاول أن أحاور الكاتب المتخيل لا من مسافة كتابته وإنما من عالمه الذي كان يمكن أن يكون له أساس مادي إذا طال به العمر أي مع الشابي الآخر الذي واصل ممارسة العلاقة مع واقعه المادي أي بعبارة أخرى مع الشاعر والناقد الذي أصبحت له ذاكرة أخرى في مخيالي ذاكرة لا تقيم مسافة مع المتخيل بل تتعامل معه وترى فيه وتكتب منه.. لهذا المتخيل زمن تكوّنه وللكتابة زمنها المختلف وبين الزمنين تستمر علاقتي بالشابي من حيث هو حاضر بيننا في نظام العلاقات والتمثلات أي في ما يحدد له موقعا يحكمه ويتجاوزه كفرد معلوم يمكن من خلاله أن أنطق بما يقوله الآن..
لم ألتفت كثيرا، وسط ذلك الشعور بالانبهار المسبق إلى ما رآه النقاد في محاضرته من إطلاقيه أو يقينية أو مجازفةِ غير المتفقّه أو تناقضات أو غيرها لأنني كنت مأخوذا بأمر آخر مختلف عمّا هم فيه منشغلون وهو الخروج على مبادئ الإرث الشعري العربي والتأسيس للقصيدة الجديدة التي سيُطلق عليها في الغرب قبل الشرق "قصيدة النثر"
لقد كانت محاضرة الشابي عند إلقائها على منبر "الخلدونية" بمثابة الحدث الأدبي والفكري الطاغي وكانت بمثابة الواقعة الثقافية عند نشرها في كتاب -نفدت جميع نسخه بعد أشهر قليلة- وخلّفت جدلا نقديا واسعا. إذ مثّلت لدى المناهضين انتهاكا للموروث وإطاحة بالوثوقيات التي نشأ عليها الفكر وكانت لهم بمثابة البدعة ذلك أنّهم تلقوا قبل محاضرة الشابي ضربة موجعة بصدور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" سنة 1926 وكانت الصدمة التي أوقعها بهم صاحب الخيال الشعري مقترنة بما كانت ترزح تحته البلاد من استعمار واستلاب إذ بدت رؤيته لديهم كأنّها مهدّدة لمقومات الهوية الحضارية ومشكّكة في منجزاتها ومثّلت لدى المناصرين أفقا نحو التحرر والتجديد.
لقد انبثقت الرؤية النقدية من التراث وتلبست بأفكار كونية بعيدة عن زيف الرؤية الكولونيالية إذ أن كتابة الشابي وضعت موضع تساؤل مجمل الإرث الأدبي والثقافي العربي بما في ذلك أنظمته القيمية وما يترادف معها من تعبيرات متعالية، إلا أنها لم تنخرط في النظرة الكولونيالية المركزية (وحتى عندما استشهد بكتّاب الغرب استشهد بكتابات لامارتين وغوته وهما متأصلان كما نعلم في الروح الشرقية) بل كانت رؤيته رؤيا محلية منفتحة على التطور في سياق مواجهة الفوارق مع مختلف الثقافات الأخرى والرغبة في توصيفها بطريقة مقارنة تبرز افلاسها في مواجهة العصر أو السمات المشتركة للتراث الإنساني.
ولعلّ التركيز الآحادي حول الذات ثقافيا وسياسيا أيضا سيجعل هذا المشروع لو كُتب له الاستمرار يفرز نتيجته الطبيعية: أفكار ورؤى تحديثية من داخل المنظومة الفكرية والثقافية العربية ستفرز في تحولها لاحقا تحديثا للبنية ولمحتواها وستكون تتويجا لاندفاعة الحركة التحديثية التونسية.
إن الشابي في الخيال الشعري عند العرب إذا افترضنا أنه بصدد كتابة المقدمات الأولية لبيان الحداثة لم يربط هذه الأخيرة بالعصر أو بالراهن من حيث أنها الإطار المباشر الذي يحتضن حركة التاريخ ومن حيث هي انفصال عن الزمن القديم أو نوع من القفز المتواصل باعتبار أن الراهن متقدّم عن السابق إذ أنه لم يلحق النص الشعري بالزمن ولم يؤكد على اللحظة الزمنية بل على النص بذاته وهو لم يقل بأفضلية النص الراهن على النص القديم بل إن رؤيته تشير إلى أن حداثة الابداع الشعري غير متساوقة بالضرورة مع الزمن بل هي ضد الزمن كراهن ذلك أن الابداع حضور دائم وحداثة دائمة وهو ما يفسر إعلاءه للأساطير الشرقية ولأساطير اليونان والأشوريين وحتى لأساطير الأسكنديناف.. وهذا الطرح أدّى إلى نتيجة حتمية بعد ما يربو عن العقدين من تاريخ نشر "الخيال الشعري عند العرب" وهي أن تحولات القصيدة العربية تأثّرت بشكل كبير بأساطير الاغريق والعراق القديم مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأدونيس ورفاقهم من شعراء الريادة وظلت القصيدة العربية "تنظر إلى الوجود (وتستعير تمثلاته) من خلال تلك الأساطير نظرة فنية تحس بتيار الحياة يتدفق في كل كائن ويستجيش في كل موجود"
من جهة أخرى لم يعتبر الشابي أن التغاير مع القديم وموضوعاته وأشكاله هو علامة على التجديد أو الحداثة فهو لم يناقش بنية القصيدة أو وزنها أو وحدتها الإيقاعية من وجهة نظر انتاج النقيض لها وإنما وهو يناقش الخيال الشعري ويهفو إلى نقد هذا الخيال ومضامينه من داخل البنية الثقافية العربية ذاتها وهو ما جعله يبحث عن فتح أفق جديد للقصيدة العمودية القديمة لذلك لم تكن رؤيته للتجديد تتزيّا "بوهم المماثلة" على حد عبارة أدونيس إذ لم ير في الغرب مصدر الحداثة بمستوياتها المادية والفكرية والفنية ذلك أنّ "الأدب الذي نشأ في عصر توفرت فيه أسباب الحضارة توفرا منكرا فانغمست النفوس في حمأة الشهوات انغماسا أمات بها العواطف الهائجة وأخمد توازي الشعور (...) وأصبحت الطبيعة في أنظارهم وسيلة جامدة من وسائل اللذة لا منبعا خالدا من منابع الالهام"ليس هو الأدب المرجو ولا هو الخيال البديل، ويمثل هذا التوصيف لمادية الحضارة نظرة استشرافية سنجد صداها فيما بعد لدى منظري ما بعد الكولونيالية والديكولونيالية والتي تطوّرت من خلالها الآداب عبر سلسلة مراحل تستجيب لمراحل الوعي بالتحرر الوطني وتؤكد مشروع الاختلاف والانشقاق عن المركز الامبريالي. فخلال طور الاستعمار استأثرت النخب المحلية بامتياز الكتابة بلغة المركز وكان طبيعيا أن تتماهى رؤاها مع السلطة الاستعمارية وتنأى بذلك عن التراث الوطني وتصبح اللغة بمثابة وسيلة لتثبيت الهرمية ليس في مستوى قهر اللغة الوطنية وقمعها فحسب بل أساسا في المستويات المعقدة لتسويق القراءة الغربية للأطر الادراكية ولمفاهيم الحقيقة والجمال والخيال حتى تصبح استلابا كاملا وضياعا في الآخر حد الذوبان. في حين أن الشابي قطع في رؤيته للخيال الشعري مع التأسلف ومع التمغرب في آن على حد عبارة أدونيس من أجل كتابة الذات الحية بإحساس القوي الصادق وعمق خيالها بجمال وجودها وقد وعت فرادتها إزاء الآخر سواء الآخر الزماني أو الآخر المكاني وتمثلت أسطورتها الأبوية وتجاوزتها وانطلقت بدءا منها إلى آفاق القصيدة الجديدة
الشابي من أشلاء القصيدة القديمة إلى نضارة قصيدة الأفق:
لقد كان الشابي من خلال رؤيته من أول المبشرين بما أقترحه كمصطلح لما سمي فيما بعد بقصيدة النثر "القصيدة الأفقية" حتى وإن لم يعلن ذلك صراحة ولكنه يشير إلى ذلك في عديد المواقع من مداخلته حيث تشي هذه القصيدة بنوع من التحول الذي ينصب على الأساليب المستجيبة لطبيعة الموضوعات والرؤى وما يحركها أو يكون محفّزا لها.. إذ يبشّر الشابي في بيانه بنهاية الهيكل ونهاية البنية القديمة من خلال تناوله لقضية اللغة في الشعر. "إنّ اللغة مهما بلغت من القوة والحياة فلا ولن تستطيع أن تنهض من دون الخيال بهذا العبء الكبير الذي يرهقها به الانسان هذا العبء الذي يشمل خلجات النفوس الإنسانية وأفكارها وأحلام القلوب البشرية وآلامها وكل ما في الحياة من فكر وعاطفة وشعور". وهو يبشّر من خلال أفق القصيدة الجديدة إلى ممارسة كتابية حديثة تختلف جذريا عن المفهوم الذي استقرّ تراثيا وتبعا لذلك فإنّ الخيال هو الذي يغير هذا المفهوم تغييرا كاملا، بحيث يصبح للشعر مفهوم مغاير للمفاهيم القديمة حيث تندمج فيه الفلسفة بالشعر ويزدوج فيه الفكر بالخيال. وبدءا من ذلك يتم النظر إلى "القصيدة الأفقية" بوصفها نصّا له بنيته الخاصة أي ضمن العلاقات التي تقيمها لغة النص: تراكيب وصورا ورموزا. ومن هنا ليست اللغة مجرّد مفردات صوتية قائمة بذاتها وإنما هي "اللغة التي تظل في حاجة إلى الخيال لأنه هو الكنز الأبدي الذي يمدّها بالحياة والقوة والشباب ولكنّه مهما أمدّها بالقوّة والشباب فستبقى عاجزة عن استيفاء ما في النفس الإنسانية من عمق وسعة وضياء". ولعل الشابي من خلال تناوله لقضية اللغة وعلاقتها بالخيال إنما يؤسس لإرهاصاتما يمكن أن نطلق عليه "نظرية الفراغ" إذ يرى أنّ من ذلك الفراغ ينبثق الشعر الجديد، فحينما انفصلت اللغة عن تمثيل الواقع وأصبحت نسقا مستقلا بذاته ظهر الأدب كما نعرفه اليوم ليثبت وجود اللغة واستقلالها. وهكذا تتحول القصيدة المحلوم بها عند الشابي إلى لغة خاصة يصبح الوجود الطاغي فيها للكلمة المتمرّدة وتصبح تعبيرا عن لغة لا تعترف بأي قوانين سوى تلك التي تؤكد وجودها.. ولكن الفراغ الذي نتج عن الانفصال بين اللغة وما تمثله هو في الحقيقة جزء من كلٍّ أشمل وأهمّ، وهو الفراغ المعرفي والفلسفي والافلاس القيمي. إنّ وظيفة اللغة في القصيدة الجديدة التي يحلم بها أبو القاسم الشابي لا تهدف إلى تكرار أو تمثيل واقع عالم آخر، ولكنّها تهدف لاكتشاف فراغ غير معروف واستعادة أشياء لم يسبق قولها من داخله. "والطريقة الوحيدة لشغل الفراغ وانطاق الصوامت هي التوليد والابداع وإلقاء الضوء، لا على ما يقوله النص بل على ما لا يقوله": تلك هي إذن ملامح قصيدة الأفق أو "القصيدة الأفقية" التي حلم بها الشابي تلك التي تطيح بالعلاقات العمودية وبالتراتبية القديمة في الثقافة والمجتمع تراتبية يمثّلها ويتمثّلها الأب/ البطريرك بمعناه الاجتماعي داخل العائلة والقبيلة والعشيرة والمستبد بالسلطة بمعناه السياسي وحارس القيم القديمةوالمتصدّي لكل تجديد أو تحديث بمعناه الثقافي قصيدة تعصف بالهيمنة الاستعمارية وبالرؤية المركزية الغربية.
لقد كانت محاضرة الشابي خطابا مضادّا يعلن من خلاله العصيان المعرفي والعصيان الثقافي في حيز من النضال الفكري وهو عصيان يبدو في ظاهره من أجل الاستقلال الأخلاقي عن العرب في حين أن باطنه رغبة في التحرر من الغرب ومن هيمنته بواسطة قيم جديدة.لعل الشابي لا يشير إلى أن الهيمنة الغربية هي هيمنة هووية بحتة أي مجرد هيمنة سردية أو بلاغية على حد عبارة الأستاذ فتحي المسكيني وإنما هي هيمنة من خلال التفوق على مستوى شكل الحياة وعلى مستوى تجارب المعنى في أفق الإنسانية وكأنّي به يقول لا معنى لمقاومة الاستعمار والاستقلال البلاغي عنه على المستوى القيمي طالما نحن لا نستطيع أن نقاوم هيمنته على عقولنا وأجسامنا بل إنّه أفصح بوضوح عندما ناقش محاضرة ألقاها المحامي الشاب والذي سيصبح في ما بعد المناضل والزعيم والمجاهد الأكبر والرئيس مدى الحياة الحبيب بورقيبة سنة 1927 في النادي الأدبي لجمعية قدماء الصادقية "عن تطور الأدب الفرنسي" حيث قدّم رأيا مدوّنا من بين ما جاء فيه "أنّ نهضة التحرير في عالمنا العربي لن تكون ثابتة إلا بتمهيد من نهضة يتحرّر فيها الفكر العام من كابوس الماضي وهذا يعين عليه الأدب الذي هو مظهر الروح. وتلك النهضة الأدبية الضامنة للفوز بالفاعلية والخلود هي التي ستضمن حرية الأمة في المستقبل عندما تتحرّر العقول من جمود العبادة للماضي وهي مدرج تحرّرها من الظالمين الأجانب والأنانيين جميعا، ولن تكون حرية هذا الجيل مادام يعبد أمواته ومادام لا يؤمن بالابتكار والرقي في العلم والنُّظم والأخلاق والآداب". بهذا المعنى يقول الشابي لا جدوى من التفكير ضد هيمنة الغرب طالما جيله يعبد الأموات ويقدس الماضي الجامد. ولكن ممّ يجب أن نحرّر حواسنا ومشاعرنا وخيالنا؟
لقد دعا الشابي إلى تحرير الخيال بنقضه بوصفه نمطا من أنماط إقامة العرب في الوجود ودعا من خلال رؤيته إلى تحرير الحياة الإبداعية والثقافية والقيمية من كل نزعة أصولية أو هووية. فالتحرّر من الكولونيالية بوصفها الوجه المظلم من الحداثة الغربية لا يعني التحرّر من الغرب باعتباره عنوان "الابتكار والرقي في العلم والنُّظم والأخلاق والآداب" وبالتالي ليس الغرب الاستعماري هو ما ينبغي مواجهة هيمنته الثقافية على عقولنا وهيمنته الاقتصادية على مقدّراتنا فحسببل الشرق أيضا بجمود ماضيه وأصولياته بمختلف أشكالها الأدبية والثقافية والدينية. بل لعل مواجهة هيمنة الآخر لن تتم إلا بمواجهة هيمنة الذات المتلبسة بكل الأفكار المتحجرة والمعتقدات الزائفة.
لقد فتح الشابي من خلال خياله أفقا واسعا لحداثة القصيدة العربية عبر تأمل ماضيها واستشراف مستقبلها بعيدا عن هيمنة الفكر الغربي ومقولاته من خلال النقد الداخلي لبنى الخيال الشعري الذي ظل إلى ذلك الحين في نظر مريديه يتنزل في أقصى نقطة من سلم الابداع. وقد تمثل ذلك في التعبير عن جملة من أشكال المقاومة للرؤية الجامدة التقليدية لمعنى الخيال والابداع يمكن تجميعها في النقاط التالية:
أولا:اعتبار الخيال موضعا مركزيا ليس للإبداع الأدبي فحسب وإنما لكل أشكال الابتكار والخلق
ثانيا: إعادة النظر في "الروح العربية" وذلك من أجل تحريرها من مؤثرات الماضي الذي أضعف ملكة الخيال لديها
ثالثا: ليس الخيال مرادفا للإبداع فحسب وإنما هو موقف أنطولوجي يقوم على تعدد الصياغات للحقيقة
رابعا: إن الخيال الشعري مطالب بتحرير الذائقة من قدامتها من أجل إعادة صياغة ذائقة جديدة في أفق الاعتراف بتعدّد الاقتراحات في القصيدة العربية وهذا يعني تحديدا تحولا ابيستيميا في بنية القصيدة ومضامينها بتحرير الوطن وتحرير الإنسان وتحرير المرأة وتحقيق المساواة وإشاعة المشترك الانساني من القيم. وهو ما يفترض بالضرورة أنّ لكل ثقافة مسارا مختلفا محكوما بالتطور داخل بنية تلك الثقافة وهذا المسار التاريخي هو الذي سيحرر الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا من الكولونيالية الغربية للوجود والمعرفة على حد عبارة الأستاذة أم الزين بن شيخة.
حينئذ تتراءى لنا الهيمنة الكولونيالية في ما اقترحته الحداثة العربية في محاولتها تجديد القصيدة العربية من خارج بنيتها واستوردت مصطلحا غربيا غريبا عن بيئتها ولا علاقة له بتطور القصيدة العربية وأفقها وهو مصطلح "قصيدة النثر"قافزة عن مقترحات الشابي في الخيال الشعري. إذ من خلال عنوان المحاضرة فحسب يمكن أن نحدس أن الشاعر أراد خيالا آخر وبنية أخرى للقصيدة تتجاوز الإيجاز الهيكلي متحررة من اللغة باعتبارها "أصغر وأعجز من أن تحمل مثل هذه الأمانة السماوية مهما بلغت من الرقي والتقدّم لأنها ضيقة محدودة فانية والنفس الإنسانية فسيحة لانهائية باقية، وهي عاجزة عن استيفاء ما في النفس الإنسانية من عمق وسعة وضياء". لكأن الشابي بإقحام جملة "الأمانة السماوية" أراد أن يحيل إلى القرآن باعتباره نصا نثريّا على غير مثال ومع ذلك اتهم العرب رسولهم بأنّه شاعر وبأنّ ما جاء به شعر رغم أنّ بنية هذا النص الجديد الذي بشر به نبي المسلمين لم تكن بنيته ولا مضامينه مماثلة لبنية الشعر العربي ومضامينه في ذلك الوقت وهو ما يؤشر لحدس الشاعر من أنّ ثمّة تجديد في القصيدة سيعصف ببنيته ومضامينه القديمة لكأنّ خمائر العاصفة تنزل عن سريرها صباحا وتغوي المستقبل المدجج بالقلق، لكأن أبا القاسم الشابي يسرّح الأرض من ظلامها وعلى شفرتها التماعات الفراغ...
ولعل الإيجاز الذي اعتبره الشابي مأخذا من المآخذ وتعجّب من مؤاخذته له النقاد لم يقصد به الإيجاز البلاغي فهو أدرى بذلك بل لعله قصد به "الإيجاز الهيكلي" إذا صحّت التسمية ذلك الذي جعل من بنية القصيدة ذات شطرين متوازيين في عمود الشعر كما عرّفه الآمدي والجرجاني وغيرهما من النقاد القدامى ولذلك فهو يطرح الخروج على الجماليات العربية القديمة نحو قصيدة جديدة أطلقُ عليها "القصيدة الأفقية"باعتبار أنها تتحرّر من العمود بمعناه البنيوي وبمعناه الدلالي والثقافي، وقد كتب فيها الشابي وقام زين العابدين السنوسي بنشر بعضها. وقد نشرهذا الأخيرسنة1928 مقالا وسمه بـ"الشعر المنثور" نبّه فيه إلى أن هذا النمط "يشارك الشعر في خياله وحذلقته الرائعة الرقراقة، وإن كان لا يتقيد بوزن ولا يتسلسل على نظام مخصوص."
سنجد صدى القصيدة الأفقية بعد ما يقارب عن الأربعة عقود من ولادة الخيال الشعري في لحظة تأسيسية أخرى حملت عنوان "حركة الطليعة" التي تأسست سنة 1968 وبشّرت بقصيدة "في غير العمودي والحر" دون أن تدرك أن المقابل للعمودي ليس "غير العمودي" وإنما هو ببساطة البداهة "الأفقي" ولكنها لم تفصح عنه لأسباب ثقافية واجتماعية وسياسية وربما لرؤية مادية جدلية ميكانيكية تعتبر أن الشعر تعبيرة من متعلقات البنية الفوقية لن يصبح أفقيا إلا إذا قامت الثورة الاشتراكية وساد العدل والمساواة... وقد مثلت هذه الحركة استشكالا لقضايا الشعر والفكر وموضع مساءلة ضرورية في سياقها التاريخيلكنها لم تستمر طويلا شأنها شأن جل محاولات التأسيس في مجتمعنا. ولعل ذلك عائد لسبب رئيس أنّها لم تؤصّل لحظة التأسيس الأولى التي تصدّى لها الشابي في الخيال الشعري، إلى جانب وجودها في سياق تاريخي مخصوص محكوم بهزائم عربية وعجز عن التحرر الفعلي من الاستعمار عزّزه ارتداد اجتماعي وثقافي نحو الماضي أدى إلى تعزيز التراتبية الصارمة التي تنعكس في مجتمعاتنا في علاقات الهيمنة الاجتماعية والثقافية والتي من بين مظاهرها سيادة القصيدة القديمة ليس بمعناها البنيوي فحسب وإنما بمعناها الثقافي ذلك أن القصيدة التي تدعي الحداثة في أغلبها مازالت تشيع قيما قديمة وتعكس تراتبية المجتمع والهيمنة الذكورية "إذ أن المرأة لم تنل في جميع الأعصر العربية قسطا من الحرية الحقة تتمكن معه من إظهار ما لها من مواهب وملكات تجبر الرجل على أن يحترمها ويبدل فيها رأيه فيطلع على ما خلف الجسد من لج زاخر وبحر عميق تختلف عليه الامساء والاصباح والأضواء والظلمات"
لقد شكلت محاضرة الشابي مع كتاب الطاهر الحداد "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" بيانا محبطا لفخاخ المخيال الذكوري وفضاء ثوريا بالنسبة للنساء استعملته السياسة لتكريس وصاية الرجل على تحديث المجتمع وعجزت القصيدة عن استعماله لتطوير القضايا النسوية على وجه التحديد.
بمثابة الخاتمة
لعلّ من أخطر الجرائم التي اقترفها نقاد الأدب الجامعيون والمتخرجون على أيديهم من شعراء ونقدة إنكار لحظة التأسيس لدى الشابي سواء في أغاني الحياة أو أساسا في محاضرته الخيال الشعري عند العرب خصوصا في ما يتعلق بنفي الريادة عنه في طرح أسئلة الحداثة على القصيدة العربية قبل أوانها إذ أنّه أول من فتح الطريق نحو أفق الشعرالذي كان من المفروض أن لا يؤدي إلى استيراد مصطلح "قصيدة النثر"وإخراجه من فضائه الغربي ومساره التاريخي والتراكمي وإقحامه في السياق العربي عبر أعوان الرؤى الاستعمارية والثقافية والسياسية من خلال الترويج لنظام القيم المستخدم في الاستحواذ على البلدان الأخرى والشعوب غير الأوروبية
لقد مثلت محاضرة الخيال الشعري عند العرب عصيانا معرفيا لما ترسخ في الثقافة الموروثة وفي الوجدان الجمعي وغيّرت النهج الذي يتبع في الدراسات الأدبية، وأدت إلى ظهور نظرة جديدة للأدب وللممارسة الأدبية، حيث أنها تغيرت من مسألة الهوية والانتماء إلى مسألة الجمالية، ومن تحليل التآمر على الهوية المهددة إلى تحليل الذات والأخر، وتركّزت على التشكيل الفكري والنقدي للمجتمعات المتخلفة والمهمّشة، ودور الأدب والكتابة في مواجهة الهيمنة وستصبح فيه الحداثة المتخيلة عند الشابي - إن كتب له البقاء أو بالأحرىإن لم يتعرّض للخيانة والاعراض عن طروحاته وتمت مواصلة مشروعه من قبل الذين حايثوه أو الجيل الذي جاء بعده، البيان الخاص بالتشتت المترابط الذي في نطاقه تجري أشكال المستقبل الديكولونيالي وأداة تمرد ضد نظام كامل من الأعراف الاجتماعية والفنية وبحثا عن المجهول والمطلق..
من بعيد أرى بعمق، أجلس في بهو الحقيقة مثل عالم يتلو رسائل للضباب، هادئا أستطلع المدى الموحش مثل أعمى يتحسس أذرعا كثيرة تخيط المساءات بقناديل الأشباح الشاحبة،
من بعيد تعود الكلمات تبسط فراءها للحقيقة وتقرع بعينين ناعستين خصية متناثرة من فوهة المعنى
إليّ أيتها الأعماق
إليّ أيتها الأعالي
فلطالما تدلت الجذور من فرجة السماء...
ارسال التعليق