إطلاق الإمكانات مستقبلُ التعاون الثنائي العراقي الألماني

لقمان عبد الرحيم الفيلي

منذ أن تشرفت بتكليفي سفيراً لجمهوريَّة العراق لدى ألمانيا في آب 2021، أتيحت لي فرصة الاطلاع على نسيج العلاقات الثنائيَّة مع ألمانيا، وقد كان لهذه العلاقة الديناميكيَّة،

منذ أن تشرفت بتكليفي سفيراً لجمهوريَّة العراق لدى ألمانيا في آب 2021، أتيحت لي فرصة الاطلاع على نسيج العلاقات الثنائيَّة مع ألمانيا، وقد كان لهذه العلاقة الديناميكيَّة، التي شكلها التاريخ والسياسة والاقتصاد والأهداف والتطلعات المشتركة، نصيبها الوافر من التحديات، ومع ذلك، فإنَّ ذات النسيج يقدمُ أيضاً العديد من الفرص التي يمكن أن تؤدي إلى مزيد من التعاون والمنفعة المتبادلة بين بلدينا، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الديناميكيات بين هاتين الدولتين قد تطورت إيجاباً بشكل ملحوظ في العام الأخير. في هذه المقالة وهي الأخيرة من هذه السلسة، سوف أتعمق في شرح تعقيدات العلاقة الثنائيَّة العراقيَّة الألمانيَّة ومستقبل التعاون وفرصها، إذ يسعى كلا البلدين إلى إطلاق العنان لإمكاناتهما الكاملة للتعاون، كما سأسلط الضوء على العقبات التي تعيق التقدم من جهة والى السبل والآفاق الواعدة التي تنتظرنا من جهة أخرى.

منظورٌ تاريخي:
لاستشراف مستقبل التعاون العراقي - الألماني، من الضروري التفكير في السياق التاريخي الذي شكَّلَ العلاقة بينهما، وتميزت التفاعلات المبكرة بين البلدين بالتبادلات التعليميَّة والثقافيَّة، إذ أسهم المعلمون والمنقبون الآثاريون والمستشرقون الألمان في تطوير المؤسسات الأكاديميَّة في العراق في أوائل القرن العشرين.
ومع ذلك، واجهت العلاقة تعقيداتٍ خلال منتصف القرن العشرين، متأثرة بالأحداث العالميَّة مثل الحرب العالميَّة الثانية، وتقسيم ألمانيا اللاحق إلى شرقيَّة وغربيَّة، علماً بأنَّ العراق حافظ على علاقات دبلوماسيَّة مع الألمانيتين في حينها ومما يعكس الديناميكيات المعقدة لعصر الحرب الباردة.  التحديات والتعقيدات والفرص:
لم تكن العلاقة العراقيَّة - الألمانيَّة خالية من التحديات والتعقيدات، إذ كان أحد التحديات الكبيرة هو تأثير الصراعات الإقليميَّة وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، ولقد شكل تاريخ العراق المعقد، بما في ذلك حروب الخليج ومرحلة إعادة الإعمار بعد العام 2003، عقباتٍ أمام التواصل الدبلوماسي والاقتصادي المستمر مع ألمانيا.
وضمن السرد المتطور للشراكة العراقيَّة الألمانيَّة، ظهرت العديد من اللحظات المحوريَّة ومجالات التعاون، ومن هنا يمكن القول إنَّ مستقبل التعاون الثنائي العراقي - الألماني مليءٌ بالتفاؤل شريطة تضافر الجهود، والتركيز الاستراتيجي، ويجب على كلا البلدين الاستمرار في مواجهة التحديات واغتنام الفرص لإطلاق العنان لإمكاناتهما الكاملة.

مع استمرار تطور العلاقات العراقيَّة الألمانيَّة، وهناك اعتباراتٌ رئيسة لرسم الطريق إلى الأمام وإطلاق العنان للإمكانات، منها:  1 - تعزيز العلاقات السياسيَّة:
إنَّ تعزيز الحوار السياسي والمشاركة الدبلوماسيَّة يمكن أنْ يمهدَ الطريقَ لبناء شراكة أقوى وأكثر استدامة، وتعاونٍ أعمق بشأن القضايا الإقليميَّة والعالميَّة، ولعلَّ التحدي الأكبر الذي يواجه العلاقات الثنائيَّة هو المشهد السياسي المتطور في العراق والذي اتَّسمَ بتغيراته المستمرة، الأمر الذي يجعل من الصعب بناء علاقة ثابتة والتنبؤ بها مع أي دولة، ناهيك عن ألمانيا التي تتجنب المخاطرة بطبيعتها، وقد أضافت التحولات القياديَّة والانقسامات الداخليَّة إلى تعقيد مشاركات العراق الدبلوماسيَّة على مستوى الثنائ والمتعدد.  2 - الإمكانات الاقتصاديَّة والتعاون:
لقد أدرك البلدان الإمكانات الاقتصاديَّة الهائلة التي تنطوي عليها شراكتهما، كما أنَّ السوق الناشئة في العراق والبراعة التكنولوجيَّة في ألمانيا تخلق فرصاً للتعاون في قطاعات مثل الطاقة والبِنْية التحتيَّة والتصنيع والتكنولوجيا والصحة، ومن المؤكد أنَّ التزام العراق بالإصلاحات الاقتصاديَّة، بما في ذلك تبسيط البيروقراطيَّة وتحسين بيئة الأعمال، يمكن أنْ يخلق مناخاً استثمارياً أكثر جاذبيَّة للشركات الألمانيَّة.
ويعتمد اقتصاد العراق بشكلٍ كبيرٍ على صادرات النفط، الأمر الذي يجعله عرضة لنزوات أسعار النفط العالميَّة، وقد أدى هذا الاعتماد المفرط إلى إعاقة التنويع الاقتصادي، وهو ما يمكن أنْ يوفر فرصاً للاستثمار الألماني في مختلف القطاعات، وإنَّ تشجيع الاستثمارات الألمانيَّة ونقل التكنولوجيا في قطاعات غير الطاقة، مثل: التصنيع والنقل والتكنولوجيا، يمكن أنْ يسهمَ في التنويع الاقتصادي والنمو المستدام في العراق، فضلاً عن وفرة الموارد الطبيعيَّة في العراق، بما في ذلك النفط والغاز (والطاقة الشمسيَّة)، والتي ممكن أنْ تكون آفاقاً مربحة لشركات الطاقة الألمانيَّة التي تتطلع إلى الاستثمار في قطاع الطاقة في بلادنا العراق.  3 - تطوير البِنْية التحتيَّة:
توفر حاجة العراق المُلحة لتطوير البِنْية التحتيَّة فرصاً للشركات الألمانيَّة للمشاركة في المشاريع الحيويَّة، ويمكن للجهود التعاونيَّة تحديث البِنْية التحتيَّة للعراق في مجالات مثل النقل والرعاية الصحيَّة والاتصالات، بالنسبة للحكومة العراقيَّة، فإنَّ تحديد مشاريع البِنْية التحتيَّة الرئيسة وتحديد أولوياتها وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص يمكن أنْ يؤدي إلى تسريع التنمية والنمو الاقتصادي، ومع ذلك، لا يزال العراق يعاني من عجزٍ كبيرٍ في البِنْية التحتيَّة، مما سيعيق قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبيَّة بسرعة وتحديث بلدنا.  4 - التعاون والتآزر الأمني:
لعبت المخاوف الأمنيَّة في مرحلة ما بعد 11 أيلول 2001 دوراً محورياً في تشكيل الديناميكيات بين البلدين، وواجه العراق تحدياتٍ أمنيَّة داخليَّة، في حين أثار صعود الجماعات المتطرفة في المنطقة مخاوف أمنيَّة عالميَّة، وقد أثرت هذه العوامل في النهج الذي اتبعته ألمانيا في علاقتها بالعراق مع الأخذ بنظر الاعتبار الزيادة في التعاون الأمني لمواجهة التهديدات المتطورة تمثل الأولويَّة لكلا البلدين. وعليه يمكن للحكومتين البحث عن سبلٍ لزيادة التعاون في تعزيز أمن الحدود، وتبادل المعلومات الاستخباريَّة، وتدريب قوات الأمن، والتعاون الدبلوماسي بشأن المخاوف الأمنيَّة الإقليميَّة، وسوف تسهمُ الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب في تعزيز المشهد الأمني في المنطقة.  5 - التبادل الثقافي والتعليمي:
إنَّ تعزيز برامج التبادل الثقافي والتعليمي يمكن أنْ يعززَ العلاقات الوثيقة بين العراق وألمانيا، ويمكن للمنح الدراسيَّة وتبادل الطلاب والفعاليات الثقافيَّة أنْ تعزز التفاهم المتبادل وتقوي الروابط بين الناس، إذ تعمل هذه المبادرات على تعزيز الروابط الثقافيَّة والاقتصاديَّة بين العراق وألمانيا، الأمر الذي يسهمُ في فتح مجسات للتعاون في مجالاتٍ أخرى بشكلٍ أعمق، وهناك حاجة ضروريَّة لتقوية العلاقة بين المؤسسات العراقيَّة المعنيَّة بالتعليم والثقافة بمؤسسات ألمانيَّة مهمَّة مثل معهد غوته أو مؤسسة داد(DAAD) .  6 - المشاركة الدبلوماسيَّة:
انخرطت الدولتان بنشاطٍ في الجهود الدبلوماسيَّة لمعالجة الصراعات الإقليميَّة وتعزيز السلام في الشرق الأوسط، وإنَّ الاستفادة من النفوذ الدبلوماسي الألماني داخل الاتحاد الأوروبي وعلى الساحة العالميَّة من الممكن أنْ تعمل على تعزيز المصالح المشتركة، وتعزيز السلام والمساهمة في الاستقرار الإقليمي.  7 - التعاون في قطاع الطاقة:
تتوافق الخبرة الألمانيَّة في مجال الطاقة المتجددة والتقنيات المستدامة مع أهداف العراق لتطوير قطاع الطاقة لديه، كما أنَّ الجهود التعاونيَّة في مشاريع الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة والانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة توفر فرصاً كبيرة لكلا البلدين.  خاتمة:
إنَّ العلاقات الثنائيَّة العراقيَّة - الألمانيَّة، على الرغم مما تتسم به من تحدياتٍ إلا أنها توفر فرصاً كبيرة لكلا البلدين، وإنَّ التعاون الاقتصادي وتطوير البِنْية التحتيَّة والتبادل الثقافي والتعاون الأمني هي من المجالات التي يمكن للعراق وألمانيا تعزيز علاقاتهما فيها، وللتغلب على التحديات، يتعينُ على البلدين الاستثمار في بناء الثقة والاستقرار وتوفير بيئة مؤاتية للتعاون المتبادل.
ومن خلال القيام بذلك، يمكننا إقامة شراكة لا تعمل على تعزيز مصالح العراق فحسب، بل تسهمُ أيضاً في الاستقرار والازدهار الإقليميين، ومن خلال هذه الجهود المكثفة يمكن للعلاقة الثنائيَّة العراقيَّة الألمانيَّة أنْ تتطور إلى تحالف أكثر قوة وفائدة للطرفين في السنوات المقبلة.
إنَّ الشراكة المتطورة بين العراق وألمانيا هي علاقة دولتين تتنقلان عبر حكاياتٍ مُعقدة، وعلى الرغم من استمرار التحديات، فإنَّ المستقبل الذي يلوحُ بالأفق يستشرفُ بالنمو والرخاء والمنفعة المتبادلة، ومع استمرار هاتين الدولتين في إطلاق العنان لإمكاناتهما ومواجهة التحديات معاً، فإنَّ شراكتهما لا تسهم في ازدهارهما فحسب، بل في الاستقرار الإقليمي والتعاون العالمي أيضاً.
إنَّ القصة المتطورة للشراكة بين العراق وألمانيا هي حكاية أملٍ ونموٍ وروح التعاون الدائمة.
وبصفتي سفيراً لجمهوريَّة العراق لدى ألمانيا، تلتزمُ حكومتي وأنا شخصياً بتعزيز ورعاية هذه العلاقة، والعمل على التغلب على العقبات والاستفادة من الفرص التي تنتظر العراق وألمانيا معاً، ويمكننا خلق مستقبلٍ واعدٍ وأكثر ازدهاراً لبلدينا ومنطقة الشرق الأوسط على نطاقٍ أوسع.  * سفير جمهورية العراق في برلين

 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق